اخر الاخبار

بدأ الأنين خفيضاً مكتوما مليئا بالرجاء، في البدء لم أتنبّه لمصدره أو نبرته، ربما يتماوج من مكان بعيد، هكذا خيّل إليّ، لكنني أعرف هذا الصوت، وأعرف مصدره، إنه جزء مني، ومع أن الجميع يئن ويتوجّع هذه الأيام، وأننا اعتدنا الأنين منذ سنوات موغلة بالقِدَم، لكن هذا الأنين يضرب أعماق روحي، ويصفع سويداء قلبي، إنه يصدر من امرأة تجاوز حَملها الوقت المسموح، لم يخطر في بالي أنّ بيتاً طارئاً واطئاً أقمناه - بسبب النزوح- في صحراء قصية سوف يكون مكانا لمخاض أقرب الناس إلى نفسي، إنها شقيقة الروح والقلب والجسد، قفزتُ من مكاني كالملسوع، وصرختُ على الجميع أن ينهضوا من النوم، نهضوا جميعا، خرجوا من فتحة البيت النايلون الواطئ ودخلوا في حالة إنذار قصوى، الظلام يسود مثلما تسود الحرب على كل شيء، رأيت إحدى النازحات تقترب من شقيقتي، ثم هرعت إليَّ وقالت:

-  شقيقتك في حالة مخاض، أتوقع أن تلِدَ قريبا.

أخذني صديقي جانبا، وأخبرني بكلمات لم يرد بعضها في بالي، ليس سهلا أن تلد امرأة في هذا المكان الصحراوي الذي يفتقر لكل شيء، لا طبيب، لا أجهزة توليد، لا أدوية من أي نوع كان، ثم لا توجد قابلة لها خبرة في التوليد، الأمر في غاية السوء، الظلام يفرض سطوته على المكان، لا نجوم ولا قمر ولا مصابيح من أي نوع كان، برد ربيعي لاذع يصفع وجوهنا، شعرتُ أن صديقي لديه ما يقوله لي فسألته:

- ماذا نفعل في هذا الليل البهيم، دلّني على حل؟

نظر في عينيّ، كأنه يبحث عن شيء ما، ثم قال:

- أليس لديك معارف هنا؟

- معارف؟! ومن هم معارفنا؟

- صاحبة المزرعة؟

- هل يمكن أن تنفعنا؟

- لنجرّب، ربما يمكنها مساعدتنا.

عند باب المزرعة القريبة، نقف الآن معا، أنا وصديقي، إلى جانبينا ينهض خيالان قلقان مترددان يصنعهما ضوء شحيح ويعكسهما جدار المزرعة، أشعر بشيء من الخجل، ولكن في الوقت نفسه أشعر أن صاحبة المزرعة ليست غريبة، إنها جزء منا ولا بأس أن تشترك معنا في المواقف العصيبة، في بعض الأحيان قد يستحي الإنسان حتى من أقرب الناس إليه، طرق صديقي على باب المزرعة بهدوء، لا جواب، طرقتُه أنا بقوة، وكررتُ ذلك أكثر من مرة، رأيتُ من خلل سياج السعف فانوسا يضيء الدرب لامرأة ثلاثينية تتقدم إلينا وتعلّق على كتفها رشاش كلاشنكوف، وشرعتْ تسأل:

- من يطرق الباب في هذا الليل؟

- أنا الطارق.

رأيتها تعود إلى الكوخ مسرعة وتخرج إلينا في خطوات أسرع، يبدو أنها تخلّصت من الرشاش، رحّبت بنا مندهشة مما تراه:

- هل من شيء؟

- نعم أختي تعاني نوبات الطلق.

- الآن؟

- نعم الآن.. ولا نعرف ماذا نفعل أو إلى أين نذهب، لا طبيب ولا قابلة، أخشى أن يصيبها مكروه.

- لحظات سوف أخرج معكما.

خطونا معا في أعماق الصحراء المحاصرة بالبرد، لم تقل صاحبة المزرعة إلى أين تسير بنا، كان صوت الأنين يطرق سمعي بشدة، خفتُ على شقيقتي من الموت الذي تتمناه هي وأخشاه أنا، لا شك أن الكلام المجرّد يختلف عن مواجهة الحقيقة، فالإنسان يعلن مواقف كثيرة بلسانه ولكنها عندما تُصبح حقيقة سوف يتراجع عمّا لفظه لسانه، شقيقتي تمنّت الموت في النهار الفائت، وها هو يفاجئها في الليل ويصبح حقيقة لا مفر منها، قلت للمرأة التي رافقتنا:

- أخشى على شقيقتي من الخطر الذي يحيق بها، ماذا ستفعلين؟

- هدّئ من روعك، سوف نجد حلا.

قطعنا مسافة ليست بعيدة نحو مزرعة أصغر مساحة، استطاعت صاحبة المزرعة أن تحصل لنا على سيارة قديمة، وطلبت من السائق أن يتوجّه بنا إلى مزرعة (أم سعد)، ورَجتْه أن يقود السيارة بأقصى سرعة ممكنة مع التنبّه إلى الكثبان الرملية في الطريق، وصلنا المزرعة المقصودة، نزلت المرأة وطلبتْ مني أن أرافقها، طرقتْ على باب المزرعة، صاح صوت رجل:

- من في الباب؟

- أنا جواهر أريد أم سعد.

بعد دقائق خرجت أم سعد تلّف كيانها كله بالسواد، لم أر شيئا منها، كانت غائبة في الظلام، تحدثت معها جواهر عن حاجتنا لها، لم تتردد قيد أنملة، دقائق قليلة وانطلقنا إلى بيت النايلون الواطئ، وما أن وصلنا حتى طلبت القابلة أم سعد أن نسخّن (قِدْراً) من الماء على الفور، ودخلتْ هي في بيت النايلون الواطئ، فأشعلنا النار بما تبقّى لنا من حطب، وهرع آخرون لجمع المزيد منه، ثمة صراخ يشق عنان السماء، موجات صوتية هائلة تندفع نحو الأعالي، تشق طبقات الظلام، حتى كأنني أرى تلك الموجات وأكاد أمسكها بيدي، نعم يمكن أن نمسك الصوت أحيانا!، نوبات الطلق تتواصل، الصراخ يتوقف ويعلو ثم ينطلق عاليا، القلوب تتقافز بين الضلوع، أرواحنا قلقة مستفَّزة، لا نعرف كيف سينتهي الأمر، أطبق صمت ثقيل على سقف البيت الواطئ، وفي داخله ران صمت أكثر ثقلا، لا صراخ، لا أنين، ولا حتى كلمة واحدة، هذا النوع من الصمت جرّبناه سابقا، إنه مخيف ويُنْبئ بحادث جلل، لا أريد الصمت، أنا أكرهه حقا، هكذا رحت أصيح بصوت مكبوت تندفع موجاته الخرساء في الفناء الصحراوي الواسع، أنا أريدُ الصراخ، كلّنا نريد ذلك، ليعدْ يطرق سمعي، الصراخ والألم أفضل من غدر الصمت المفاجئ بكثير، تقدمتُ نحو فتحة البيت الواطئ، كدتُ أرفع نايلون الفتحة الصغيرة كي أرى ما الذي يحدث داخل هذه الزريبة الواطئة، لا أعرف ما الذي منعني عن فعل ذلك، بغتة هرعتْ إلينا (أم سعد)، قالت والرعب يكتسح صوتها:

- الجنين لا يتحرك كأنه حجر.

- هل هو ميّت؟

- أتوقع ذلك بنسبة عالية.

- وأم الجنين؟

- نبضها ضعيف جدا، وقلبها ينازع من أجل البقاء.

- وما العمل؟

- نحتاج لطبيب وأجهزة مساعِدة، يجب أن ننقلها فورا إلى مستشفى الولادة.

- لا توجد مستشفى، الجميع فرّ منها هربا من القتل.

- علينا أن نبذل ما بوسعنا لإنقاذها.

- هل تعنين أنها ستلقى حتفها؟

- إذا لم نجد لها طبيبا أو مستشفى.

- لكن هذا مستحيل في هذا الظرف، ثم لا توجد مستشفى ولا أجهزة توليد بعد تدميرها.

- إذاً ستبقى أم جلال بين يدي ربّها....

- يا إلهي!

في لحظات القنوط التي نعيشها الآن، هذه اللحظات التي هيمن فيها البؤس والقلق والخوف والموت على العالم بأسره، في هذه اللحظات المنحوتة من اليأس المطلق، قد تمنحنا الأقدار فرصة أخيرة أقرب إلى المعجزة أو هي المعجزة بعينها، والأغرب في هذا أننا لم نكن بانتظارها، ولم نتوقع حدوثها لأنها كالمستحيل أو أقرب إليه، ربما تحدثُ هذه المعجزة، فتغيّر كلّ شيء رأسا على عقب، لدرجة أن الموت قد يتحول إلى حياة، والظلام إلى ضوء، واليأس إلى أمل، والخوف إلى قوة، وها هي تحدث بالفعل، في لحظة فقدْنا فيها الأمل بكل شيء، إلّا من ذلك التشبث المستميت بنبض الحياة حتى آخر الأنفاس، ففي غمرة حالة الترقب والقلق والخراب وضياع الرجاء، ينبثق ضوء ضئيل للأمل، ما يلبث أن يشعّ.. ينمو.. يكبر.. يتصاعد، لتنطلق صرخة وليد جديد، كأنها صرخة جنين أزلي تراكمت منذ بدء الخليقة وانطلقت اللحظة، كي تتحدى الحرب وكل أشكال الموت الأخرى، صرخةٌ بِكْر تخرج من باب البيت النايلون الواطئ لتفيض في الصحاري الواسعة، تنتشر في البوادي والغدران والسهول، لتنشر الحياة الأبدية في هذا الخلاء المترامي.

لاحت خطوط ذهبية في الأفق البعيد، حيث تقبّل السماء وجه الصحراء، نهضت الشمس بكامل أبَّهتها، لتعلن الضوء عنوانا لحياة جديدة، طلبتْ أم سعد قطعة قماش منسوجة من القطن كي تلّف بها الوليد، كان طلبها البسيط هذا عسيرا، إذ من المستحيل أن نأتي لها بما طلبت، ثم على الفور خلعتُ سروالي فهو مصنوع من قماش القطن، لا أعرف كيف فكرتُ بهذا الحلّ، أعطيته للقابلة عن طيب خاطر، فأشرق وجهها بتباشير فرحة مفاجئة كأنها عثرت على لؤلؤة في أعماق البحر، أم سعد أنهت عملها الآن وطلبت الأذن بالمغادرة، أعطاها صديقي مبلغا من المال، فرفضت ذلك بكرم امرأة واثقة من نفسها، وقالت:

- في هذه الظروف أنا أعمل لوجه الله فقط.

صاحب سيارة الأجرة رفض أيضا أن يأخذ أجرة عمّا قدّمه لنا على الرغم من إلحاحنا عليه، أثلج صدري هذا السلوك الإنساني في هذه الأوضاع الحرجة التي تحاصرنا، وجدّد الأمل بأننا في يوم ما سوف نكون أفضل، وسوف نسامح بعضنا، سنعالج الجروح التي أدمتْ أجسادنا وأرواحنا، هناك في أعماق الإنسان رغبة للتمسك بالخير والعمل به، هذه الرغبة لم تغب في ليلتنا الصعبة هذه.

بدأت تباشير الشروق تعلو وتكبر وتنمو وتصبح أكثر حضورا، وبدت أكثر بهجة حيث الضوء شرع يغسل وجه الأرض، ينظّفهُ مما لحق به من بثور، ويشفيه مما لحق به من كدمات، وحيث النسيم البرّي يداعب الوجوه والأرواح معا، غفتْ شقيقتي وسكن وليدها في حضنها، ومضتْ جواهر إلى مزرعتها، مهرجانا عارما للفرح نعيشه الآن، في وسط النهار استيقظت شقيقتي، دخلنا عليها، حمدنا الله على سلامتها ووليدها، كان جنبها مغمض العينين، وجهه نحو السقف، قلت لها محاولا رفع معنوياتها:

- إنه يشبه أباه.

لم تجب بشيء، تقاطرت الدموع من عينيها، تنبّهتُ إلى خطئي، ليس صحيحا أن أذكرها الآن بزوجها الذي خطفته الحرب، حاولتُ معالجة الموقف، لكنني فشلت، فقد كان قلبها يبكي بصوت مسموع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص عراقي، فائز بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة.

عرض مقالات: