اخر الاخبار

(تتداول الأوساط الثقافية والإعلامية راهناً، مسألة اصدار قانون يحول دون ظهور (المحتوى الهابط) في الفضائيات والصحف والرأي العام.. ويراد بهذا (القانون) حجب حرية الرأي، وكتم الانفاس، والاستجابة للصوت الأحادي الذي يقمع كل صوت نقدي حر. هنا نقدم رأي قاضٍ متخصص في الشأن القانوني والمتعلق بالحريات.. لكي يكون نبراساً للحقيقة والحرية معاً).

المحرر الثقافي

 *********************** 

إذا كانت الحرية تعني الكيان القانوني الذي يتمتع به الإنسان ضمن المجتمع، فأن ضوابط تلك الحرية تؤكدها نصوص الدساتير من دون الإخلال بحرية الآخرين ومن دون أن تتعدى على حقوقهم، والحرية الشخصية تلتصق بالشخص وتمتزج مع كيانه، لا يمكن فصلها عنه، غير أن الواقع العملي يقر بوجود تعارض لممارسة مثل تلك الحرية من قبل سلطات معينة، فتنظر الى الحرية الشخصية  على اساس انها تعدي على حدودها وتجاوزا على نظرتها  السياسية، وتخطيا للخطوط التي لا تريد لأحد تجاوزها، فضلا عن تلك الحرية انفلاتا وممارسة خارج أطار تنظيم المجتمع حسب اعتقادها، فتعمد الى تقييدها وخرق المبادئ العامة لمفهوم الحقوق والواجبات وحرية الفكر في هذا المجال.

غير أن الحرية لا تعني فقط الممارسات السلوكية التي لا تعتدي على حرية الغير  أو التي تنعكس ايجابيا عن الفرد، إنما تكون أيضا الحماية التي يضفيها الدستور والقوانين على الممارسة  الفردية ضمن نطاق مفهوم الحرية الواسع، فلا تضع قيودا على أفكاره ولا حدودا لمساحة ممارسته، ولا خطوطا حمراء على آرائه ووجهات نظره، لأن تلك القيود والخطوط تلغي العديد من مفاهيم الحرية الشخصية  وتتعارض مع مبدأ الإقرار بالحرية الشخصية.

والحرية تولد مع الانسان يتمتع بها ويمارسها حتى نضع له المحددات والممنوعات فيلتزم بها، ولذا فان مقياس الرقي والتطور لأي مجتمع او دولة من الدول يأتي بالمقدار الذي تحدده دساتير وقوانين تلك المجتمعات والدول، وبالمقدار الذي تتم فيه ممارسة وحماية  هذه الحريات عمليا وصيرورتها طريقا  ومنهجا من طرق الحياة.

الحرية بشكلها العام تعني عدم وجود أي عقبات او حواجز تحد من ممارسة الأنسان لأفكاره وميوله وقابلياته ، وبالتالي فإنها تخلق مناخا واسعا للتعبير بلا محددات او قيود، على ان لا تتعدى على حريات الاخرين، وان لا تسيىء للنظام العام والآداب.

وعلى هذا الأساس فأن مفهوم الحرية يتجانس اعتمادا على أرادة الفرد، فهو حر بالأصل ومهمة الدولة تنظيم تلك الحرية دون تقييدها أو تحديدها، وأن تلك القوانين التي أسست على الدستور حلت لتنظيم تلك لحرية، وكل تلك الضوابط ونصوص القوانين جاءت بموافقته بعد ان  تم إقرارها بموجب الآلية الدستورية الخاضعة لقرارات مجلس النواب، والذي تم انتخابه بالأصل وتم تفويضه من قبل الشعب،  فأضحى المعبر الحقيقي عن صوت الشعب.

ووفقا لهذا الأساس  فأن أي تحجيم لنصوص الحرية دينيا أو قوميا وبأي شكل كان  يعد انتهاكا وتعديا سافرا على معانيها، ولا يمكن القبول بمنطق دين الأكثرية أو قومية الأكثرية أو مذهب الأكثرية  في النص، فلا اكثرية ولا أقلية في مسألة الحرية،  لأن النص دائما عام  وشامل يسري على الجميع، وهذا الإلزام ليس فيه استثناء ولاقيود  تحدده،  وأن إلزام دين أخر بقوانين دين الأكثرية سحق للحرية الشخصية وتجاوز على المبدأ، كما أن وضع قومية أخرى تحت عباءة قومية في النصوص يتعارض مع مبدأ الحرية، وعليه فأن الحاجة الى نصوص دستورية تضمن الحرية الشخصية لا تقع تحت التحديد وتحكم جميع الناس المتعايشين سوية ، وتسري على كل القوميات المتعايشة، لا أثر للأقلية والأكثرية في الحقوق الشخصية، ولا حواجز في تطبيق ضمانات الحرية الشخصية، مادام الهدف الأسمى هو الإنسان، وحيث أن الدستور يؤكد على المساواة  الإنسانية، بغض النظر عن الدين أو القومية أو الجنس أو المذهب أو العقيدة،  مثلما يؤكد على احترام الحرية الشخصية ويضفي عليها الحماية، فأنه أيضا يضع الضوابط وعدم تجاوز القيم والنظام العام، غير انه يعود ليضع خطوطا حمراء على بعض المواد التي تحيلنا الى التزام معين يلتزم  به قسرا المواطنون مهما كانت دياناتهم أو عقائدهم أو مذاهبهم، ونجد في هذه النصوص انتهاكا على معنى الحرية الشخصية العام.

ولا يمكن للإنسان أن يشعر انه متحرر أو انه يملك القدرة على ممارسة حرياته بشكل غير مقيد إلا حين لا يجد تلك القيود والحدود تحدد نشاطه وتقيد حركته وتمنع ممارسته لتلك الحرية وذلك النشاط ، ولا يشعر بتلك الحدود والحواجز إلا عند ممارسة القمع والمنع  والتقييد خارج أطار النص الدستوري  بأي شكل كان، وعلى هذا الأساس  يعتبر بعض أن الحرية   هي الممارسة السلوكية دون ضغوط ضمن أطار القانون.

ولذا تجد أن العديد من أوامر المنع والإرغام القسري التي تصدر عن رغبة السلطة لا تجد لها أساسا من التطابق مع احترام الحرية الشخصية، وتجد إن العديد من القرارات المبطنة التي تتبرقع بحجج وأسباب لا يسترها الدستور ولا تسندها الحرية الشخصية  وهي بالنتيجة  ممارسات قمعية وسلوك مستهجن يتناقض مع مفهوم الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور.

والحرية تولد مع الانسان يتمتع بها ويمارسها حتى نضع له المحددات والممنوعات فيلتزم بها، ولذا فان مقياس الرقي والتطور لأي مجتمع او دولة من الدول يأتي بالمقدار الذي تحدده دساتير وقوانين تلك المجتمعات والدول، وبالمقدار الذي تتم فيه ممارسة وحماية  هذه الحريات عمليا وصيرورتها طريقا  ومنهجا من طرق الحياة. هذه الحرية عامة لا يتقيد بها الفرد ويمارسها المجتمع، ويحميها الدستور والقانون، وفي العديد من الدول يتم تحديد اسس الاخلال بالحريات والضوابط التي تحددها بما لا يخل بمفهوم هذه الحريات  ولا يقيدها بشكل صارم.   

وتؤكد نصوص القانون الأساسي العراقي الصادر في العام 1925 ضمن المادة السابعة على أن الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ويأتي هذا النص منسجما مع الفضاء المطلق للحرية الشخصية، فلا يمكن التعرض لتلك الحرية ولا التدخل في خصوصياتها، بالتأكيد على صيانتها والضمانات التي يوفرها الدستور،  مثلما يستمر النص في عدم جواز القبض على الإنسان أو توقيفه أو إجباره على تبديل  مسكنه أو تعريضه لقيود ، أو إجباره على الخدمة في القوات المسلحة إلا بمقتضى القانون.

فالقبض على الإنسان أو توقيفه يشكل تعديا صارخا على حريته، لكن هذا الحق يتم تأجيله أو التجاوز عليه مؤقتا  إذا كانت هناك شكوى أو جريمة  أو قضية، وهذا التجاوز يستمر مادام الإنسان متهم أو ثبت ارتكابه الجريمة،  لأن العقوبة وتقييد الحرية منطق معاكس للحرية الشخصية،  وإجبار الإنسان على أداء الخدمة العسكرية ضريبة وطنية لكنه يؤديها ضمن قانون يشمل جميع العراقيين بلا استثناء،  ويؤديها المواطن خلال فترة محددة  لا يمكن تجاوزها الا بقانون، ويتم تسريح المواطن منها  بعد انقضاء هذه المدة، فهذه المدد هي قطع لسريان تمتع الإنسان بحريته الشخصية، الا أن هذا القطع كان بقانون ووفقا واستنادا على نص دستوري.

ونتلمس هنا إن الضوابط القانونية هي التي تحدد أبعاد التعدي على الحريات الشخصية ضمن القوانين، والحرية الشخصية ليست حرية الجسد، بل تتعداها الى حرية الفكر والعقيدة، حيث نص  الدستور المؤقت الصادر في العام 1958 على أن حرية الاعتقاد والتعبير مضمونة وتنظم بقانون ، مثلما أكد في المادة 11 منه على صيانة الحرية الشخصية ولا يجوز التجاوز عليها إلا حسب مقتضيات السلامة العامة ووفق القانون.

ومع أن دستور عام 1964 جاء خاليا من تلك النصوص، إلا انه تعكز على نص المادة 19 التي تؤكد المساواة بين العراقيين في الحقوق والواجبات العامة، وعاد في المادة 29 ليؤكد على حرية الرأي والبحث العلمي،وسار على ذات النهج دستور عام 1968 حيث أكد في المادة 31 على حرية الرأي والبحث العلمي، وجاء منسجما ومتطابقا مع نصوص الدستور الذي يسبقه،  ويلاحظ تلك الخشية من الحرية الشخصية وضوابطها القانونية التي ظهرت ضمن نصوص الدساتير التي سنتها الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق للفترة من 1963- 2003دون أن تسمع رأي الناس أو تجري استفتاء الشعب عليها، حيث دأبت تلك السلطات على فرض كل النصوص الدستورية على الناس والزامهم بها  وبذلك تنتهك أصلا كل معاني الحرية الشخصية وتسحق مبادئها ، كما انها برهنت عمليا بعدم ايمانها بقضية الحرية عن طريق اساليبها في القمع والاضطهاد وخنق الفكر وفرض سلطة الحزب الواحد وعدم فسح المجال للراي الاخر.

وجاء قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ليؤكد في المادة ( 13 / آ ) بان الحرية العامة والخاصة مصانة،  وفي الفقرة (ب)  نص على أن الحق بحرية التعبير مصان، ثم فصل العديد من الحقوق الشخصية منها حرية العقيدة والفكر وحرية الشعائر الدينية وحرية التنقل وحرية السفر وحرية الاجتماع السلمي والانتماء الى الجمعيات وحرية تشكيل النقابات والأحزاب والانضمام اليها ، وحرية التظاهر والإضراب السلمي، والحرية للعراقي بحياته الخاصة ضمن الفقرة (ح)، ومع أن هذا القانون مؤقت ويحكم فترة مؤقتة من التحول السياسي والدستوري في العراق، الا أن تعدد شكل الحريات لم يكن كافيا.

وأما في الدستور العراقي الحالي  الصادر عام 2005، فقد ورد في باب الحقوق والواجبات الدستور النافذ  يضمن في المادة (17)  بأن لكل فرد بغض النظر عن قوميته أو دينه أو جنسه أو مذهبه أو لونه أو أصله أو وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي خصوصيته الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين ومع الآداب العامة.

هذه الحرية في تأسيس الأحزاب قيدها الدستور ضمن المادة (7) منه في حظر كل كيان أو نهج، والكيان يعني الهيئة او البنية، والنهج يعني الطريق او الخطة، وهذا الحظر يشمل تبني الارهاب أو التكفير او العنصرية أو التطهير الطائفي (محرضا او ممهدا او مروجا او مبررا)، وجعل خصوصية وتأكيد في الحظر (للبعث الصدامي  ورموزه وتحت اي مسمى)، وترك أمر تشخيص التبني والتحريض والترويج  لتفسير السلطة التنفيذية.