اخر الاخبار

   يعد كتاب “المسرح فن وحياة”، بمثابة مفتاح لتوثيق مسيرة د. عقيل مهدي يوسف الطويلة التي تجاوزت في تجربتها الواسعة والغنية والمليئة بالتحولات المختلفة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وحتى سياسيا، والتي اهتمت بتتابع حدثها في تكوين شخصية الفنان والأكاديمي المبدع. لم يكن هذا الكتاب الذي جاء بتسلسله الاربعين او اكثر من اسفار عقيل مهدي الابداعية مجرد كتاب تحدث عن اهمية المسرح بوصفه تمثيل الحياة بحقيقتها وباختصار زمنها ومكانها حسب، بل جاء ليكون سجلاُ تاريخياً يوثق فيه المؤلف سفره الابداعي بتتابعية وتشويق نصي جمالي معهود. هذا المبدع البغدادي الوجود الواسطي النشأة الذي وعى في (قنبرعلي) متجولاً بين احياء بغداد وازقتها القديمة الاصيلة مع عائلته التي كان رب اسرتها انسان قوي البنية مثقف ينتمي الى تلك الارض الغنية بمفرداتها الشعبية والتراثية والانسانية، اذ فتح الصبي الموهوب عقيل مهدي عينه على فوج شرطة الخيالة وملابسهم الرسمية وهم يستعرضون في الشارع وبقيافتهم المعهودة الجميلة، والتعايش الجميل بين فئات الشعب بمختلف دياناتهم وقومياتهم وطوائفهم يجتمعون مرحبين بتلك التظاهرات الحضارية.

لقد كانت للحركات السياسية المتعاقبة في تاريخ العراق الحديث وما ولدته من صراعات سياسية وطبقية اثرها الكبير في تكوين شخصية المؤلف الذي اشار الى انه تأثر كثيراً بوالده الذي واكب العديد من الأصدقاء المقربين من كان منهم سياسياً، اديبا، وحتى من كانوا من اهم شقاوات بغداد المعروفين امثال (خليل ابو الهب) الذي يصفه المؤلف بشدة شبهه من والده، ويقول في هذا الميدان بان احد اصدقاء والده والمعروف باسم (حسن كلات) الذي كان يلاحقه دائما ليمزق قميصه وبشكل مستهجن ووالده يراقب ذلك الحدث ضاحكاً.. وعندما سال الولد اباه لماذا يستغرق بالضحك اجابة الاب لأنك كنت تصرخ بكلمة (بويه) على نسق اهل الجنوب، وليس على طريقة البغداديين (يابه)، هنا تعلم عقيل مهدي الدرس متحاشياً الحديث باللهجات. انها محطات مهمة اسهمت في بناء شخصيته الذاتية ولاسيما حبه وشغفه بالمسرح وتعلقه بالبيئة المحلية والاجتماعية التي نشأ فيها ونهل منها دراسته الاولية، لقد كانت اولى تجاربه المسرحية منذ ان كان طالبا في الدراسات الاولية حيث جسد العديد من الشخصيات في المسرحيات المدرسية وبمختلف الاغراض المسرحية سواء كانت كوميدية او تراجيدية وبمختلف الشخصيات. وصولاً الى قبوله في اكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد عام 1969م حيث اصبح على تماس كبير مع رموز ورواد المسرح الاوائل ابراهيم جلال، جعفر السعدي، بدري حسون فريد، سامي عبد الحميد، اسعد عبد الرزاق، جاسم العبودي وجعفر علي، هنا بدأ المشوار لفتى كان يتمتع بتجارب مقالية ناشئة ومحبة للمسرح وفنه الانساني. انها الركيزة الاولى في حياة المؤلف الدكتور عقيل مهدي الذي استفاد من هذا الحضور والتماس الفني والجمالي والتقني بين موهبته ودراسته الاكاديمية والتي انتهت بنيله درجة الدكتوراه في العلوم المسرحية من بلغاريا، اذ يصف بنفسه تلك التجربة الغنية قائلاً (( ان السنوات المبكرة من حياتي المسرحية ما زالت فاعلة في اشتغالاتي، وقد اضفت لها بعداً تنظيرياً في الاهتمام بالجوانب الفلسفية والنقدية والتاريخية، وكذلك ما يتعلق بالجانب الاكاديمي التدريسي والتربوي، بحكم تطور تجربتي المسرحية، ودراستي العليا في جمهورية بلغاريا، وجدت نفسي محباً للفلسفة لأني كانت بي حاجة الى تبرير هذا الاندفاع الى المسرح خلافاً لحقول معرفية ووظيفية اخرى)). لقد استطاع الشاب الجامعي عقيل مهدي يوسف ان يتميز بشكل كبير في دراسته الجامعية بقسم الفنون المسرحية ليمثل مع اساتذته وكبار المخرجين آنذاك، وكانت من اهم المسرحيات التي اشترك بها في تلك الفترة، مسرحية (بغداد الازل) من اخراج الفنان الراحل قاسم محمد، و مسرحية (الجومة) من اخراج الفنان الراحل سامي عبد الحميد والتي كانت من تأليف الراحل الفنان يوسف العاني، فضلا عن تمثيليات اخرجت للتلفزيون ومنها (السائل والمسؤول) من اخراج الفنان الراحل جعفر السعدي. وفي هذا الشأن يشير المؤلف الى طبيعة تلك الاصرة الفنية والابداعية التي تجمع الطالب بأستاذته، اذ يقول ((كنت اناقش اساتذتي حين نشاهد عرضاً مسرحياً لهذا المخرج او ذاك من خلال الدرس ونسعى لمعرفة تقويمه، للعرض المسرحي بشكل عام، او تفصيلي يخص عمل الممثل او مصمم الازياء، والتقنيات السينوغرافية وكل ما يعني لدينا من استفسارات ومن طريق هذه المشافهة المرتجلة بيني وبين الاساتذة، والطلبة والزملاء اتحصل على معلومات ومعارف جديدة، واتلقف مفردات فصيحة دالة، تطور من رتبة الثقافة لدي وتغنيني بالنافع، من الامور التي تخص عالم المسرح، الواسع الارجاء)). لعل حديث المؤلف الدقيق هذا يشير بما لا يقبل الشك على قدرته استيعاب نتائج واعمال وفكر من كان لهم الفضل الكبير في دراسته الاكاديمية ليكون فيما بعد احد اهم اعلام المسرح العراقي، وليقود قسم الفنون المسرحية رئيسا له وصولاً الى عمادة كلية الفنون الجميلة لسنوات طويلة حقق فيها العديد من المنجزات الاكاديمية والفنية والجمالية، كما كان لحضوره الاكاديمي في الدراسات العليا مشهوداً لما كان يقدمه من دراسات نوعية في علوم المسرح، وهنا يذكر المؤلف اشتراكه في مناقشات رسائل وأطاريح الماجستير والدكتوراه مع العديد من الاكاديميين العراقيين في اختصاصات مختلفة  كالدكتور علي جواد الطاهر ود. نوري جعفر ود. حسام الالوسي، ود. عناد غزوان، ود. علي عباس علوان وسواهم.

تضمن الكتاب مسيرة حافلة في حياة المؤلف، تنوعت ما بين الدرس الأكاديمي والوقائع اليومية الحياتية الابداعية له، فضلاً عن دراساته الجمالية والتنظيرية المهمة في علوم المسرح، كما تضمن الكتاب مجموعة من الحوارات والمقابلات الشخصية معه. لقد كانت لآرائه واحكامه الجمالية والعلمية والتقنية دورها الكبير في تشخيص العديد من المفاهيم والمصطلحات المسرحية المهمة فلسفة العمل الدرامي المسرحي بمختلف اغراضه. وفي هذا الصدد يقول ((يجب على المؤلف ان ينتقي موضوعاً مبتكراً يخص اسلوبيته هو حتى ان كان مقتبساً عن رواية او فيلم او نص مسرحي لكتاب اخرين، فهو يجب ان يلم بأسرار البناء الدرامي منذ المقدمة الاستهلالية وما تجره الاحداث من انعطافات في تقدمها وتراجعها بنظرة استباقية مدروسة بعناية سواء في تأزمها وذروتها، او في اتجاهها وانحدارها البياني نحو حلول مقترحة)). صدر هذا الكتاب عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة- بغداد.

عرض مقالات: