اخر الاخبار

كثيرة هي المطبوعات التي تغزو سوق الكتب الأدبية العربية اليوم لاسيما تلك التي تصنف كروايات، لكن معظمها يخفق في تحقيق مستوى فني متميز يتفوق به على ما سبقه وما يضاهيه. ولذلك أسباب تتعدد وتتنوع منها أولا كثرة دور النشر التي لا يهمها من وراء طبع الكتاب ونشره قيمته الجمالية أو إضافته المعرفية ومقدار الاهتمام الذي سيحصده من القراء؛ بل المهم المردود المالي الذي ستجنيه تلك الدور بأيسر السبل وأسهلها وهي تستحصل جلَّه من المؤلفين وهم كُثر، وأغلبهم جامحون نحو الظهور والوجاهة طمعا ببعض ما يغدقه عليهم طبع الروايات من نعم. وثانيا توفر مختلف الوسائل التقانية الرقمية التي تجعل عمليات الكتابة والطباعة والنشر والتسويق يسيرة وسريعة.

وهو ما نجده عند من امتهنوا الرواية فكرا وعلما وفنا، ولا نجده عند من استهوتهم الرواية موضوعا يفتقر إلى الفهم الصحيح والعميق لما ينبغي أن تكون عليه الرواية. ومن ثم لا قيمة جمالية للمكتوب؛ لأن العملية عبارة عن استنساخ لصورة من صور الحياة المعيشة التي تعج بالفقر والإرهاب والطائفية كالروايات التي اتخذت موضوعها من سبايكر أو سبايا داعش أو مجزرة سنجار أو تفجير المفخخات والأحزمة الناسفة أو الاختطاف على الهوية أو التهجير القسري أو النزوح الجماعي، عارضة لها كمشاهدات أو تقارير أو حكايات، غير آبهة بمعالجتها معالجة فنية، ولا عاملة على الارتقاء بالواقعة اليومية فنيا إلى مستويات أعلى مما هي في راهنيتها، وهو ما لا نجده متحققا في الغالب الأعم من الروايات الراهنة التي ظلت تشظيات الواقعة اليومية وانعكاساتها أعلى كثيرا من حضورها النصي ومن ثم يعجز السارد عن الإيفاء بممكنات التصعيد الفني ومتطلباته.

ومهما كان الموضوع واقعيا جدا محملا بطاقة درامية تصل حدود اللاتصديق؛ فإن مجافاته للفن ستضيع قيمته الجمالية التي ينبغي أن يتحلى بها. ومن ثم لا تتعدى الكتابة في هذا الموضوع أي تقرير من التقارير التوثيقية أو أي ريبورتاج من ريبورتاجات الصحافة، فما من جديد فيها غير الذي سمعناه أو شاهدناه عن حكايات تعج بأفعال مدانة إنسانيا. والحال نفسه في البلدان العربية التي فيها أيضا كم كبير مما ينتج باسم الرواية هو في الأساس موضوعات مجتمعية لم تعالج فنيا وهي تتحدث عن مشكلات مجتمعية واقعية من قبيل تفشي البطالة والمخدرات وضياع الحريات وقسوة السلطات وسوء توزيع الثروات ..الخ. 

وللأسف نجد اليوم بعض المهتمين بالسرد والكتابة القصصية والروائية من النقاد والكتّاب يتوهمون وهم يصرِّحون أنَّ الرواية بخير وأنَّ نتاج الروائي الفلاني محمل بالفن الأدبي وفاتهم أن ثلاثة أرباع المطبوعات التي تحمل اسم (رواية) هي ليست من الرواية في شيء. وكثير من الذين يكتبونها طارئون على هذا الفن متسللون إليه لواذا، هدفهم تزجية الوقت، يسيئون إلى تاريخ الرواية كجنس أدبي ما شهد انحسارا نوعيا مثل الذي يشهده اليوم. بينما لا يحصل ذلك في كتابة القصة القصيرة والسبب أن هذا الفن عصي على الطارئين الذين لا يستطيعون الكتابة فيه إلا وانكشف ضعفهم وبانت حقيقة قدراتهم.

ومن الطبيعي أن يقع الناقد في الحيرة وهو يريد نتاجا روائيا ينمذج به على قضية فنية يبحث فيها أو تقانة سردية يعمل عليها وفي بعض الأحيان يضيع جهده ووقته وهو ينقِّب بلا جدوى بين كم الكتابات التي ليس فيها فن ولا إبداع.

إن التراجع النوعي غير المسبوق في كتابة الرواية وباستثناء نتاجات نوعية لكتاب امتهنوا كتابة الرواية أو طوروا أدواتهم فيها، هو الذي دفع بعض النقاد إلى استشراف موت الرواية العربية. بيد أن الرواية لا تموت لأنها جنس حي يتجدد بتجدد الحياة ويتسع بسعتها، لا يطاله الذواء والاضمحلال، لقدرته على التكيف مع الحياة نفسها.

وأس تلك الأزمة هو الفن الذي تراجع ليتقدم عليه الموضوع، ونظرة مقارنة وفاحصة في عديد الروايات التي كتبت في أربعة بلدان عربية هي العراق ومصر وسورية وفلسطين بين الأعوام 1960ـ 1973 سيبين أنها لم تكن تتجاوز المئة في كل بلد من هذه البلدان ففي مصر 88 رواية وفي سورية 61 رواية وفي العراق 57 رواية وفي فلسطين 33 رواية فقط.

 وساهمت هزيمة حزيران في زيادة أعداد الروايات بحسب الملحق الذي وضعه شكري عزيز ماضي في كتابه (انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية) والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت عام 1978. والكتاب في الأصل اطروحة دكتوراه من جامعة عين شمس وباشراف الدكتورة سهير القلماوي.

وما بين الأعوام 1974ـ 1994 ازداد عديد الروايات فصار بالمئات في أغلب البلدان العربية. ليزداد هذا العدد أضعافا مضاعفة وبشكل غير مسبوق من منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين.

ومع تزايد أعداد الروايات تزداد الأزمة عمقا، فيضيع القليل الجيد من الأعمال في خضم الكثير الهزيل، حتى أننا لم نعد نجد من يتقن تسخير الفن في سبيل الموضوع؛ إلا نفر معدود من الكتّاب، ليبقى الوافر الجم من الكتابات لا يتحمل أن نصفه أصلا بالسردية، لأنه أشبه بالتحريرات والتدوينات والتسجيلات والتسطيرات التي تتفاعل مع الحدث اليومي الذي هو أصلا مثير ورائج تفاعلا مباشرا وتقريريا ليس فيه ما يشفي إبداعيا بسبب افتقاره الى التجريب الفني أو التنويع الجمالي اللذين يجعلان الإبداع كامنا لا في جرأة تناول موضوعات خطرة وحساسة وإنما في ذكاء الكاتب الإبداعي وهو يعالج تلك الموضوعات من موقع يختاره بأناة ورؤية يوجهها بصبر وعمق، فتصبح روايته إضافة نوعية في مسيرة الرواية العربية تؤثر على مستوى تطور الفن أو على مستوى البحث في داخل هذا الفن عن حلول بها نخرج من دوامة مشكلاتنا الاجتماعية وأزماتنا النفسية والفكرية، وليس مجرد رقم يضاف إلى قائمة أعمال لا تقدم بل قد تؤخر مسيرة الرواية العربية.

إن تراجع مكانة الرواية بين الفنون الأخرى ومنها القصة القصيرة ــ التي أخذت تتقدم عليها بخطة حثيثة ــ لم يعد غريبا؛ بل هو طبيعي ذلك أن القصة القصيرة هي الفن المستقبلي الذي سيتقدم على الرواية شيئا فشيئا. وإذا كان القرن العشرون هو عصر الرواية؛ فإن القرن الحادي والعشرين سيكون عصر القصة القصيرة.

عرض مقالات: