اخر الاخبار

خوسيه إميليو باتشيكو شاعر لفت الأنظار بعد أن نال الكثير من الجوائز المحلية والعالمية عن مجمل أعماله الشعرية والنثرية. التي تتّسم “بالدقة الشديدة، والبساطة المُخادِعة” كما يتميز نثره “بعفوية السرد وسلاسته”. أصدر ثلاث روايات أخرى، وهي “دماء ميدوسا”، و”مبدأ اللذة”، و”سوف تموت بعيدًا”، “معارك الصحراء”، تبعها بـ “قصص الريح” التي تناول فيها موضوعات الحُب، والصداقة، والفساد، والنبذ الاجتماعي، والتطهير العِرقي وما إلى ذلك. رواية “معارك الصحراء” رواية قصيرة “نوفيلا”؛ تؤرخ للمكسيك من خلال مغامرات الشاب المراهق “كارليتوس”، من الطبقة الوسطى المولود مع عصر توسع العاصمة المكسيكية، حيث يتداخل تاريخه الشخصي بيولوجيا مع حكايات المدينة التي تعيش أزمات وجودية في حقبة زمنية تشهد بوادر الاستعمار الثقافي الوافد من الولايات المتحدة الامريكية وتجارب فردية وجماعية لمعاني النضوج والاستقلال.. تعمق فيها خطاب ثقافي سلسل الحياة كما تسلسلت الاقدار الصناعية، وسجلت للمكسيك حضورها الى العصر التقني. عهدنا فيها ضبط الايقاع في الجملة، والابتعاد عن الجملة الانشائية التي تقعِّر العمل، وتشتّت وحدته الموضوعية، على الرغم من خيانة الترجمة التي شابت الطبعة العربية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة 2016، بتوقيع “سمير عزت”، ومراجعة “علي المنوفي”.. حيث لا أحد كان يشكّ في فساد الدكتاتور “ميغيل أليمان” وحلقته الضيقة. الذي نُصِّب رئيسًا للمكسيك في 1 ديسمبر 1946، وبقي في منصبه حتى عام 1952 عندما مُنع من الترشح لإعادة الانتخاب، فعاد إلى الحياة المدنية، وتوفي هناك بلا اهتمام. بعد ان كان يتمتع بشعبية كبيرة قبل رئاسته، وخلال سنواته الأولى كرئيس، لكنه فقد الدعم الشعبي في الأيام الأخيرة من ولايته.  هذه الرواية من أهم الروايات المكسيكية في القرن العشرين، جاءت بمتوالية (العالم القديم، كوارث الحرب، علي بابا والأربعين حرامي، مكان في الوسط، مهما كان عمق البحر، هاجس، يوم لن يتكرر، امير هذا العالم، الإنجليزية بالإجبار، امطار من نار، اشباح، حي روما).. بطريقة تشبه قصيدة النثر، المتوازية مع كثافة الأحداث التي أراد فيه كعمل فني متماسك، اذ صاغها كتوليفة حوار وعي لمسيرة “المكسيك” الذي جرت عليه الاطماع، وعرضته الحروب الى دمار وتشويه إنسانية الانسان، خاصة تحت وطأة أنظمة الدكتاتورية التي حكمت بالنار والحديد بواسطة تماثيل ليس لها قيمة، ولكنها تسلطت على العباد، وحولت الانسان الى كائن مُهَدَّمْ، بالكاد يتنفس، او يعيش بقيّة حياته كبقيّة اقرانه بين أهل الأرض. (أينما كنت تجد نفسك محاطاً بوجه السيد الرئيس: رسومات ضخمة، بورتريهات مثالية، صور في كل مكان رسوم تمتدحه، ونصب تذكارية له وقصص واساطير تروي عن التقدم الذي تحقق على يد ميجل أليمان- الرواية).

جاءت “معارك الصحراء” كمشهد بانورامي بصور متداخلة تجمع بين الثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والدين، وعلم النفس، والتاريخ، والحضارة يدخلنا الراوي “كارلوس” / المتكلم، والمراوغة التي تنطوي على مفارقة غير واضحة: “أتذكر، لا أتذكر” (الرواية- ص9) ليعود بنا إلى العالَم القديم الذي كان يهيمن عليه شلل الأطفال، والحمّى القِلاعية، والفيضانات وسواها من أمراض العصر وكوارثه المميتة. لكن هذا العالَم الموبوء سرعان ما يتلاشى ليحل محله عالَم جديد يتسم بالثراء الفاحش لحفنة من البشر، بينما يطغى الفقر على السواد الأعظم من الناس. لكن الصناعة، والزراعة، والإعمار، وتعبيد الشوارع قد وجدت طريقها إلى العاصمة “مكسيكو” والتي غيّرت ملامحها الحضارية، بل أن الحداثة نفسها قد غزت هذه المدينة الكبيرة وصار الناس يسمعون كلمات وعبارات جديدة لم يألفوها من قبل.

الاحداث/ نهاية الحرب العالمية الثانية في أحد الأحياء المكسيكية وفي ذلك العام الذي لا يتذكره الراوي بالتحديد، والذي يعتبر عام بؤس وأسى، وأضطر الناس إلى استخدام الزوارق للتجوال إبان حكم نظام “ميجل أليمان” الاجرامي، فيما قام الرئيس السابق بالحدّ من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية، وهيمنتها على عقول الناس البسطاء لكن الأساقفة أنشأوا ميليشيات شعبية لمقاومة سياسات الحكومة العلمانية، فأفضت صبغة مقيتة من الطائفية، حيث اندلعت  حرب طاحنة مع التيار العلماني بالنتيجة تطورت الى حرب أهلية سميت ب”الكريستيروس” عام 1929 ولم تهدأ الا بعد أن خلفت اكثر من 250 ألف قتيل برئ. حيث يسلط عليها الضوء بعد اعجابه الشديد بوالدة صديقه “جيم”، وراح يتابعها بدقة، وتكشف قصتها عن عشيقها المليونير الذي كان واحدا من بين حاشية الدكتاتور، وحالة الفساد القاهر المخيّمة على رقاب الناس. حيث ندخل إلى تشابك الأحداث ونُمسِك بالخيط الأول الذي يفضي بنا حول والد “جيم”، الشخص الغامض، الانتهازي المتبجح بقربه من السلطة، والذي يتفاخر بقيمته التي يستمدها من خلال صداقته بالرئيس “أليمان”، (وظهوره المتكرر إلى جواره في الاحتفالات الرسمية، وصوره المنشورة في الصحف والتي لا تشي بأي شبه بينه وبين ولده جيم، بينما يؤكد هذا الصبي بأنه يشبه أمه كثيرًا- الرواية).. تواجهنا أحداث متسارعة نعرف أن “ماريانا”، والدة “جيم”، هي مجرد عشيقة لذلك المليونير. أما والد “جيم” الحقيقي فهو صحافي أميركي اصطحب “ماريانا” ذات مرة في رحلة استجماميّة إلى “سان فرانسيسكو” من دون أن يتزوّجها، فحملت منه هذا الطفل الذي يتحدث الآن اللغتين الإنجليزية والإسبانية بطلاقة. ونتعرف جيدا الى طبيعة شخصية الراوي “كارلوس” عندما تسلل من المدرسة بعد أن استأذن من مدرِّس اللغة الإسبانية، وتوجّه إلى شقّة ماريانا ليقول لها: “عذرًا مدام، إنني وقعتُ في حُبِّك” (ص38) والتي بدورها لم تغضب منه، “ولم تسخر من بوْحِه لأنها كانت تفهمه، و”عليه أن يُدرك بأنه مثل ابنها، وأنها أم لأعزّ صديق عنده، وطلبت منه أن يتعامل مع الموضوع كمزحة عابرة سوف يتذكّرها بعد سنوات طويلة بابتسامة مرسومة على وجهه، لكن الأبوين لم يتعاملا معه بهذه الدماثة والحنوّ وإنما أجبراه على المثول أمام الكاهن للاعتراف بذنبه والذهاب إلى طبيب نفسي لمعالجة اضطراباته العقلية على الرغم من توبته، وتعّهده بالعودة إلى الطريق الصحيح، ومع ذلك فقد أثبتت الفحوصات بأن سلوكه الشاذ ناجم عن الشعور بالإهمال من قبل الوالدين، وقسوتهم المفرطة عليه- الرواية”. لم يكن بقية أشقائه أفضل حالاً منه، هيكتور حاول اغتصاب الخادمة. فيما أحبّت شقيقته «إيسابيلا» الممثل «استيبان» الذي أساء الأدب أمام والدها فطرده، الأمر الذي دفعهُ لاحقًا إلى الانتحار.

الأحداث مثيرة ولناس يقولون إنّ “ماريانا” قد كتبت رسالة إلى «جيم» بالإنجليزية تعتذر له فيها عمّا فعلت، وربما هناك رسالة أخرى كتبتها “الى كارلوس” مَن يدري؟ وحينما غادر المطعم الذي دعا “روساليس” إليه رأى الموت في كل مكان، ومع ذلك فقد ظل يفكر فيما إذا كانت قصة انتحارها حقيقية أم لا؟ كيف له أن يعرف هذه القصة الغامضة بعد أن هُدِّم “حي روما” برمته ولم تبقَ أي ذكرى من مكسيك تلك السنوات؟ لكن الشيء الوحيد الذي يعرفه جيدًا هو “لو كانت ماريانا على قيد الحياة فهي اليوم ابنة ستين عامًا”.

أما الراوي كارلوس الذي “يتذكّر ولا يتذكّر” فهو في منتصف العمر، وقد سرد لنا كمراهق أحبّ امرأة بعمر أمه في “العالم القديم” الذي تقوّض،

وحلّ محلهُ عالَمًا حديثًا يشعر فيه الإنسان المكسيكي بالغُربة والاغتراب معًا.

اما تسمية الرواية جاءت طبقا الى لعبة أطفال تسمى “معارك الصحراء” التي تدور رحاها بين الأطفال على أرض حمراء خالية من الأشجار والنباتات، وتلك المعارك باتت تجري بين الكبار بعد اكتشاف بانها احدى منابع الثروات، التي تتغنى بها أغنية “البوليرو” القديمة من “بورتوريكو” التي يقول مطلعها: “مهما كان علوّ السماء/ مهما كان عمق البحر/ حبّي العميق لكِ سيحطِّمُ من أجلكِ كل جدار” (الرواية - ص10).

عرض مقالات: