اخر الاخبار

الرّوائي المبدع الذي يتبنى الواقعية النقدية عن وعي ، لا يستنسخُ الواقع ، إنما يعيدُ انتاجه، فهو يعيد ترتيبه ، يضيف إليه ، يحذف ما ليس ضرورياً لغرضه ، مثل هذه الرواية تخزّن هدفاً كبيراً وراءها ، وهذا الهدف يكوّنه مستواه الثقافي، وتصوغه قدراته الأدبية بعيداً عن المباشرة والتقرير ، إنما يضع تلك الأفكار الحالية والمستقبلية على ألسنة شخوصه وأفعالها ، فهو يتخفى وراءها لتبدو الرواية واقعية مقنعة مؤثرة .

الهدف الرئيس للمبدعة نجاح في رواية “الهوتة” الفائزة بجائزة حنا مينة للرواية، والصادرة عن وزارة الثقافة السورية لعام 2022 ألخصه على وفق اجتهادي المتواضع على النحو الآتي :

1 - أنَّ ماجرى على أرض الشام كان قد خطط له كثيراً كما ورد على لسان بطل الرواية حامد الإبراهيم  (كل هذه العذابات التي هطلت دفعة واحدة بعد ما اخترقت البلاد مؤامرة خطط لها كثيراً) ص45

2 - أنها أدانت الوضع الجديد القائم ، ودعت إلى محاربته بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر ، وحرصت على دفع المتلقي في هذا الاتجاه.

3 - ترى أن هذه الأفكار متخلفة لا تتناسب مع تاريخ السوريين المثقفين المنفتحين على الحياة :

(كيف احتمل السوريون كلَّ هذه العذابات التي هطلت دفعة واحدة ، بعد أن اخترقت البلاد مؤامرة خطط لها كثيراً ؟ كنا في أحسن حال ص45

2 - كتب حامد في مقالة صحفية:

(وقلت هذا الدّم المراق، والذي يورث الحداد في كل مكان ، لا يليق بنا نحن السوريين

المنفتحين على الحياة، والمشهود لنا بعشقنا لها نحن الحضاريين في مدن كان لها قصبة السبق في تواجدها، حاملي لواء الأبجديات والقلاع ) ص 24

 هل نجحت الروائية في تجسيد أهدافها ؟

وإلى أي مدى ؟

نعم ، لقد نجحت وبامتياز، لأنها اعتمدت الحقائق في الواقع، ثم عرضتها بأسلوب فني ناضج، فلم تكن الرواية كومة أخبار مجرّدة من الحياة ، كامرتها كانت تلتقط صوراً تدخلها إلى المختبر لتخرج مجسّـدة بشاعتها التي خلقتها داعش، وغدت منفرة ومرعبة أيضاً لأنها لا تمت إلى الإنسانية بصلة ولو بدرجة ضعيفة جداً، فالذي كان يمتلك حداً أدنى من الثقافة بدین الله وسنة رسوله ودعواتهما إلى السلم الاجتماعي يتذكر تسمية أهل الديانات الأخرى بأهل الذمة تتكفل الدولة الإسلامية حمايتهم وحماية معتقداتهم لقاء جزية يدفعونها، وجاء على لسان رسـول الله (ص)  من آذى ذمياً فقد آذاني وفي قول آخر .. من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة، ولكن ماذا فعل وكلاء الله على الأرض كما يزعمون قالت بهار: ( في صيف عام ٢٠١٤ داهمت داعش قرية زوجي ، قتلوا المئات بدم بارد، قتلوه أيضاً أمام عيني، وقتلوا أباه وأمه ، ورموا بهم في مقبرة (الخفسة)** ، اختطفوني مع أختيَّ  زوجي؛ ألماز وفوتة ضمن مجموعة من النساء ، بعضهن كن مع أولادهن ،أخذونا إلى الموصل، قافلة من السبايا من

 

مختلف الأعمار كن، وهم يدفعوننا يقول أحدهم  أنتن كافرات يجب أن تبعن شرفكن للإسلام) 151  152 ، وفي سوق النخاسة (وهذه إهانة كبرى للإنسان وللمرأة بالذات)  كانت مجموعة من الرجال من جنسيات مختلفة ينتظرونا ، تم بيعي أنا وألماظ إلى رجل تونسي، ولأن ألماظ حرمته من مضاجعتها، راح ينتقم منها وهي ميتة ، عرّاها من كلِّ ثيابها ، وراح يرفسها كالحمار وهي جثة ويضع حذاءه على فمها من جديد ، ويقول : إلى جهنم يا كافرة . رحت ألبسها الثياب ، لكنه نهرني  وقال غاضباً  اتركيها سأرميها للكلاب. وكان يريد أن يجعلني مسلمة، وأن أشهد بوحدانية الله، وهل كان الله غائباً عني ، وعن الأخلاق والقيم التي أؤمن بها ؟! وهل هو يعدُّ مسلماً ؟ ) ١٥٤ – ١٠٥ أهذا هو الدين الجديد كما صوره القائمون على أمره ؟ لقد جعلوا الخوف كالهواء لا يمكن الاستغناء عنه، والكاتبة لا تزودنا بالواقع بطريقة تسجيلية مجرّدة  إنما تخترق أبطاله المعذبين في الأرض في ظلِّ داعش حتى يشاركهم المتلقي في آلامهم ، جوعهم ، خوفهم وشعورهم بالقهر ، بالظلم ، بكلِّ شي مرعب ، وربما همس كافر بهذا الدين الجديد الذي جعل (معظم الموت كان يأتي دون سؤال) هكذا مباغتاً كالقضاء والقدر ،وذلك نتيجة شكل اللحية التي في وجه أيِّ مار في الشوارع المقفرة) ص22، و ( الانفجارات ، والقذائف لا تهدأ كانت رائحة الاحتراقات وجثث الحيوانات تزخم الأنوف، و معظم البيوت مفتوحة ومسروقة) ص٣٤ أيمكن لوكلاء الله كما يزعمون أن يقنعوا الناس بدينهم الجديد وهذه هي مكاسبهم ؟ إن إيصال المتلقي إلى الاندهاش والذهول ثم السؤال وحده كيف ؟ لماذا ؟ يعد نجاحاً للكاتبة التي أيقظت الإنسان في داخل المتلقي بعد أن نقلت عدوى الخوف إليه ! لقد ذابت في كثير من بقاع الشام التي وقعت تحت يد داعش القيم والأخلاق التي عُرِف بها أبناء الشام، ونهضت البداوة في أعماق نفوس البعض. رئيس القسم الذي كان يعمل فيه الإعلامي حامد الإبراهيم حين أدرك أن حامد على علم بأن ابن عم رئيـس القسم قد قتل شرطياً في دوما ، طلب من حامد الصمت (وقتها استدعاني إلى مكتبه بعد ما قرأ مقالتي عـن الأمر وطلب مني تغييرها فرفضت . هزّ برأسه وأمرني بالانصراف ، ثم جند كلَّ طاقته للتخلص مني . أتذكر تعرضي إلى محاولة اغتيال من قبل ملثمين قالا جملتهما التي لا أنساها مطلقاً : حتى يعرف الكلب كيف يكتب ؟) ص7... ثم طلب منه رئيـس قسمه أن يلزم بيته (إبن العاهرة ، خليك ببيتك . . ممنوع عليه الاقتراب من أحد وممنوع اقتراب أحد منه) ص8 والهروب وطلب اللجوء لم تعد هذه المصطلحات عيوباً ، ولاتسبب الشعور بالعار. أو الخيانة  فأحمد وزوجته هربا من درعا حين علم ما تضمر له جماعة داعش لأنه يعمل موظفاً في المحافظة، هربا على ظهر دراجة نارية ليلاً إلى الأردن، وصار حامد يعلن عن رغبته في الهجرة إلى موسكو ولم يرفض عرض ماريا الجميلة للتوسط له في الأمر! ولم يكن بطل الرواية حامد الإبراهيم بطلاً أسطورياً لا يعرف الحبّ طريقاً إلى قلبه ، ولا تقوى غرائزه على التحكم في سلوكه . لقد أحب (أنونة وهو في القرية (أنونة) زوجة الفلاح عبود المتعب، عبود الذي قتل أنونة ليغسل العار حين علم بارتمائها في حضن حامد، ثم مات طفلها الذي كانت تضعه عند عمتها حين تريد الذهاب إلى حامد لتمارس الجنس.

بقي حبُّ أنونة في زاوية من قلب حامد، ولكنه لم يحافظ على عذريته، لأن الواقع أغراه بذلك، وربما الضرورة جعلته يستجيب لدفء صديقته لمياء وإغراء المرأة الحديدية الجميلة جداً بيللا ،أو ماري .. وصار يتذكر أحياناً (أنونة) ويشتاق إلى الأرض التي كانت أليفة لكن داعش حولتها إلى معادية، فالذي يخرج من السجن يجد في كلِّ الجهات ملاذاً !ً

في صوت (بهار) محفّز قويٌّ لاستذكار دمشق والصلاة في محرابها (أنا مستعد الآن بكل ما فيَّ  من لهفة إلى موجة من مشاعر مختلطة لما في صوتها من كمية كبيرة من الشوق والحنين اللذين يأخذاني عبر انسياباتهما إلى دمشق) ص6 ماذا فعلتِ بي يا دمشق ؟! وأي باب من أبوابك السبعة سمح للنار والخيول والرايات أن تدخل ؟! ياإلهي كم هو صعب أن ترحل عن وطنك الذي تحب ؟ تحمل ذكرياتك في جعبة وتمضي ... إنه الموت بحدِّ ذاته ! ص8 (وكنت الذي مات) هذا ليس اعترافاً فحسب أدلي به الآن، إنما هو عنوان مقالة فتحتِ الأعين صوبي ص22 أجل : وكنت الذي مات، أمام عيني متُّ حين دهم ملثمان قبوي، كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل ، كنت أتابع الأخبار، واكتشفت بعد مقابلة المغنية (بهار) أنني لم أكن المهاجر الوحيد ، إنما يبدو أن الوطن كله هاجر رغماً عنه.

امتلكت الروائية قدرة رائعة في تصوير شخوص الرواية من الداخل، تدعمها جرأة تُحسد عليها (فزعت ، دق قلبي بقوة ، صرخت بهااار) كنت وحيداً إلاَّ من صوتي ، مجنوناً أركض في الشوارع التي خلت من الناس ، أكاد أتجمد، خضتُ في كتل الثلج التي كبرت أمام خطوي ، رحت أصرخ من جديد خشيت أن يتجمد صوتي فلا أقدر على الصراخ ، لهذا كررت ندائي بها اار ، بهااار، ثلج کثیف وضباب أكثف ، رحتُ أخوض بصعوبة فيهما أذكر أن آخر مرّة نطقتُ بها اسم بهار حين سمعت صوت جرس كنيسة، خافتاً يأتيني من بعيد .) ص  193.

لم تكن لغة الرواية تسجيلية ، تقريرية ، إنما مدّت الرومانسية وخاصة الاستعارات يدها إلى ثوب الرواية فزادتها تشويقاً وجمالاً أذكر بعضاً على سبيل المثال لا الحصر قال حامد لنفسه : أي كلام تقوله هذه المترفة بالأنوثة؟  في بعض المساءات أقبض على ظلال اشتهاء في عينيها فأتغاضى عن ذلك احتراماً لسيدة قدّمت لي جميلاً.. تعساً لمن يمضي عازفاً عن قطف النجوم في وقت استثنائي . كانت ابتـسامتها شمساً تنيرالوقت .  كانت فالنتينا سيدة تناهز الخمسين من العمر، بيضاء جميلة ، طويلة ، عميقة العينين، دافئة كشمس بلادي، وبيللا، أوماري امرأة الماء و الفرح والغموض توقظ حتى الحجر ليضاجعها ص ۷۸ (ملاحظة خارج المتن . (أحيانا كنتُ أتوهم أنني أقرأ للروائي عبد الرحمن منيف في أكثر من مقطع تذكرت الراحل، فالسجن الأحمر في رواية ( الهوتة) ذكرني بسجن العبيد في رواية منيف “الآن هنا، أو شرق المتوسط”  وانثيالات حامد على متن الطائرة في الطريق إلى موسكو ذكرتني بانثيالات منيف على ظهر الباخرة أشيلوس في طريقه إلى فرنسا للعلاج، طريقة التعذيب التي اتبعتها داعش مع ذلك الحدث أمامهم (ويقذفون به أرضاً وقد قيدوا يديه ، فتى صغير ، لم يخط شارباه بعد ، وجهه أصفر نحیل، نظراته غير مستقرة ، ينظر هنا و هناك ، لا يكاد يصدق أنه سيعدم بعد دقائق ، لم يُقرأ علينا تهمته ، ولم يعرفونا على ذنبه الذي ارتكبه فنال هذه العقوبة ، فقط ألقوا به أمام انصعاقنا وراحوا يطعنوه بالسكاكين ويدعسوه بالأقدام ثلاثة من العساكر كانوا، هبطوا كالقدر الأسود فوق جسده اليافع ، ليفتحوا نوافير فيه، راح صوته يمزّق روحي ... كان استنجاده بأمه) ص80 تذكرتُ رجب بطل رواية شرق المتوسط حين أدخلوه في كيس، وأدخلوا معه قطتين وبدأوا يضربون بقوة، والقطتان تفترسان أجزاء من جسم رجب.

هكذا تقتربُ الروائية المبدعة من روايات منيف إنها رواية جديرة بالقراءة وحفظ حوادثها لتقي الأجيال القادمة من الانخداع بالدين الجديد لدی داعش.

 

----------------------------------

*كاتب عراقي

** (الخسفة) حفرة عميقة جدا القى فيها الدواعش مئات الضحايا اثناء احتلالهم مدينة الموصل عام

2014 - المحرر.

عرض مقالات: