اخر الاخبار

ليس أكثر حزناً من غياب الشاعر في المنفى !!

ليس أكثر حزنا من انقطاع أخبار المبدع والسبات الذي يلازم أيامه فيتوقف إبداعه عن الجريان منسجما مع لحظات الأنجماد في بلدان المنافي التي ماكانت اختياراتنا.

عبد الأمير جرص ليس بالاسم الذي يمكن نسيانه فهو الملتصق بالذاكرة  ، والسابح  مع مرور الحروف الجميلة  امام عيوننا ،  عبد الأمير الذي يجيد رسم الكلمات وتشكيل باقة الورد من نقاط وفوارز الشعر العربي ، عبد الأمير جرص الذي يهبك غابة من الشعر من دون أن يمتلك حديقة صغيرة في منفاه البارد ،  ولا حتى ان يتوقف متأملا  عابراً بقصائده اليها  ، مثلما ليس بإمكان القارة الكندية أن تجمد  مشاعر وحروف وكلمات قصائده ، وعبد الأمير جرص المشتعل شوقاً للوطن والممتلئ شعره فيضا وثراء وعطاء في مفردات ينتقيها من اللغة ، والممتنع عن النوم في مسيرة الحياة في جهاتها الخمسة على الرغم من أن الجهات أربع  قد شكل له جهة اخرى  لوحده ،  لكنه يبقى المسافر الذي لا يغفو ربما حرصاً على كلماته من أن تتلبسها الغربة حزنا ويسحقها الثلج الذي تذيبه حتماً مشاعره الدافئة .

(( مرة

استيقظنا فلم نجد الوطن

قيل لنا : لَمَ الوطن جمع حاجاته

جمعها شجرة..

شجرة

ونهراً ..

نهرا

ورحل بعيداً ))

واللغة التي تحيط بمفردات عبد الأمير جرص خالية من الرتوش ممتلئة بالشهقات والحزن واستذكار الطفولة والحنين الدائم الى وطن موشوم على جدران قلبه وفوق بؤبؤ العين ويتكور بين حروف القصيدة يتنفسه مع كل شهيق  ، وحين تستنشق القصيدة تشعر بنسمات المدن الفقيرة والاضرحة المقدسة وروائح البخور وطعم التمر العراقي ولون الديرم الذي تستعمله  الفقيرات من نساء العراق والمقلوع  من لحاء شجر الجوز الكوردستاني  بديلا عن أحمر الشفاه رديء الصنع والذي لاتستطيع الفقيرات توفير ثمنه  ،  ولهذا تجده متملصا من ركام الشعر القديم مع حنين اليه حينا وحين  ، قدرته في انتقاء كلمات قصائده  تبقى عالقة ليس في الذاكرة وأنما تتمرجح في الروح .

(( تأكل الزوجة حياتي ..

وتطعمها للصغار الذين لم يولدوا بعد

تأكل الزوجة المخيلة ...

وتطعمها للصغار الذين لم يكبروا بعد ......))

وميزة من مميزات قصائد عبد الأمير جرص انه  يتمكن بقدرة معلم  خلط روائح العبق التاريخي يصنع منها صبرا لأيامه القادمة التي يتخيلها ستجيء  ثم يتمكن بجدارة أن يعجنها ويقنعك بانتظار النتيجة ، لكنك تغفو على الأرض من دون أن تتذوق طعم كعكته فقد قدم لك طبقا من الكلمات والأبيات الشعرية التي يرسمها في روحه قبل أن يطلقها في الهواء الطلق  ، وهي قدرة شعرية قد لا تتوفر عند الأخر ، لكن لعبد الأمير جرص القدرة على أن يصف لك الغنى والثراء وهو لم يجد بعد وجبة الطعام التي تسد رمقه  ،  ويصف لك السعادة وجيوبه خاوية ، وتتسع مساحة الوصف والاستذكار الذي لا يفارقه فيبقى أسير هواجسه وأحلامه الرافضة .

(( أنا آخر من سينسى ...

وأول المتعرين ، ذهنيا ً

أقتفي غنائم نصبتها العشيرة

لي ...

وأومئ للتردي أن أقبل : فلقد

مللت الخلافة والخلفاء

مللت الوقوف على بابك ممتدحاً

إياك ورابضاً بجوار التعطر

بالمسك ...

المسك الذي هو دم أيضاً

دم مسفوك ، وفخ للغزال

المتربص بي الساعة ... ))

لا يوفر مساحة الا وتجد نقش كلماته على الطين وفوق زجاج النوافذ ومتدلية من قباب المآذن وفوق تموجات الماء في قرى الجنوب الفقيرة  وبين القصب اليابس في الأهوار الناشفة الريق والتي عافتها طيور الحذاف والخضيري أو في دفاتر لف السكائر من كل الأنواع مع التبغ الكوردي الحاد النكهة  وعند بوابة المدن المحاصرة ،  وفوق تقاسيم الجوع العراقي وحارات الفقراء  وبيوت الصفيح الذي لا يمنع الماء من الدخول اليها من كل الجوانب  ، ولكنه يشتاق اليها مثلما نشعر بالسعادة حينما نستمتع بقراءة القصيدة المكتوبة بالمسك النازف من قلب الشاعر  وتلك مصيبة أخرى أن تجد جزء من روح عبد الأمير جرص منقوشاً فوق مرمر القصيدة .

(( سارت الغمامة الى أقصى الخراج

فابتلت جوانح الرشيد بالعصور

الذهبية ...

لقد أبتنى عصراً ، من خراج 

الأهل ...

وأقام العسس على طرقاتهم ...

وأرتهن الماضي بسدود

ضخمة من الأنانية

هل لأهلنا أن يمدوا

سواهم بقبضاتهم أم

يستبقوا رهن الامتنان؟  ))

نشيج أو قصيدة زفرات أو شعر وليمة أم غمامات لا يهم فالكلام يجر الكلام وانسيابية اللغة التي يقتنصها عبد الأمير لا تعذره فالبلاد بعيدة والحياة تكاد تنزوي باتجاه القطب وماكان يخطر في بالنا ان نكون جزءا من هذا القطب المنجمد شماليا كان ام جنوبيا فالأنجماد قاسمه المشترك ،  لكنها الكلمات التي لم تزل مشتعلة ومساحة الصحف التي يتسع قلبها للجميع لم تزل مفتوحة الصدر والقلب يشتاق لكلام الشاعر الصعلوك الذي كان قابعا  في أي مكان من الخارطة الكندية يحاول أن يبني مزاراً من الكلمات وليس لديه موعداً سوى أنه سيقيم عند مدخل مقهى حسن عجمي  في شارع الرشيد يستقبل الشعراء والقراء كتفاً لكتف وهو الذي يقول :

(( سأقف عند بابك ثانية ممتدحاً

نفسي وماسكاً إياها عن التدخل ...

بشؤون الدولة العباسية ، حيث

سيستظرف الخلفاء هذا الشعر

المتصاعد

من مطابخ الدولة بعد أن ذبحوا

وسلخوا وشووا على النار ما

استطاعوا من أيامنا ))

وعبد الأمير جرص الشاعر الذي هاجر الى كندا على الرغم من أنفه لم تزل تجيش كلماته بين القلوب وتلتصق في بؤبؤ العيون فارة من حروف الجريدة اشتقنا لقصيدته وكلماته  وأشتقنا لنبض روحه النازفة في غربة نعرف يقينا أنها لم تجمد كلماته أبداً ، ميزة الكلمات عند عبد الأمير أنها ساخنة مثل خبز تنور أمهاتنا.

وليس غريباً بعد هذا أن يتجمد الشاعر قبل كلماته حيث رحل عبد الأمير جرص حاملاً العراق بين ثنايا ضميره وأحاسيسه من دون أن يعرف أن الطاغية قد نفق وأن عهد صدام قد اصبح بائداً.

لكن عبد الأمير جرص رحل من دون احتفال وبلا مواكب عزاء فقد ودعنا كما جاء بصمت ومن دون أن يحدث ضوضاء ، فقد احتضن الثلج ليدفء روحه التي تشظت فوق أقصى الأرض قريباً من جبال القطب الشمالي .

رحل عبد الأمير جرص قبل أن يلتقي بالعراق وليس اكثر من هذه اللحظة ألماً عليه حين تعرف روحه أنها تهيم فوق أرض العراق من دون أن تحط  ربما خشية ان تقتنصها يد الأرهاب ، وقد ينثر الكلمات او ينثر روحه كما ننثر ماء الورد فوق حلاوة الفقراء ،  لعله يلتقينا ارواحاً هائمة فوق ثرى العراق فلم يزل عبد الأمير جرص في خواطرنا وذاكرتنا .

عرض مقالات: