اخر الاخبار

اختار الكاتب(عبد الحسين محسن) في هذه الرواية الصادرة عن دار الرواد المزدهرة للنشر، معالجة فترة راهنة بصفتها التاريخية ولا يزال اثرها واضحا بتحولاته وتجلياته وموقف الناس من احداثه، وقد يبدو اختياره ذاك جرأة منه كونه العمل الروائي الأول؛ إذ ربما يزجه في محظور الكتابة الخطابية فهو يتحدث في روايته عن معاناة الايزيديين والمسلمين وجميع الطوائف التي انتهكت من قبل تنظيم داعش، ولكنه تدارك ذلك الخوف لينشئ روايته وكان حصيفا في معالجته تلك، فجاء بشكل من الكتابة البعيدة عن التقريرية والمباشرة، بل انتقى من مخزونه الثقافي ما يشد المتلقي كي يتخيل الحدث ويتصور كم الظلم الجائر في ظل هيمنة القمع وما يرزحون تحته من كبت للحرية واغتصاب للآدمية، ويجر القارئ للإحساس بقيمة الحياة الآمنة في مقارنة مفزعات العنف والتسلط، وحرص على بيان تفصيلات وحيوات الشخوص مع المحافظة على نسيج تكوين العلاقات فيما بينهم.

تعددت شخوص الرواية وفرض تلك التعددية طبيعة العمل الأدبي الذي يوثق لفترة ضمت اعتقال عوائل عدة تربطهم اواصر محبة وتعايش سليم اختل نظامه بعد دخول داعش لمحافظات وقرى العراق الشمالية، ولكن تعدد الشخصيات ذاك كان ينحصر عند الكاتب أو يتماهى في شخصيتين بعد اكتمال الفكرة وهما الفتاتان (برفان المسيحية وكوثر المسلمة) اللتان اختطفتا مع النسوة الاخريات من قبل التنظيم الاجرامي عندما وصل قريتهم الآمنة وعن طريقهما جسد الكاتب حالة خاصة جمعت صديقتين بعد أن ابتدأ روايته بصورة تجمعهما مع صديقتين اخريتين في المدرسة، ليكون تواجدهما في معتقل واحد صورة حية للتآزر بينهما مقابل الانتهاك والقساوة المفرطة بعد أن فرضتها على المنطقة قوة متخلفة وطاغية، اختطفت الهمّ العراقي باسم الدين، لتقيم استبدادها الخاص، وشكلت بما بنته من ثكنات وهياكل لنظام حكم متطرف، فمن هذا الجزء من الجغرافية المستلبة في العراق، تتوزع وتتفرع مجموعة من الأحداث والأمكنة المترابطة، مفعمة بحمولة كبيرة من وصف لأكثر الامكنة دفئا وحميمية في كنف الاسرة حين يأخذ السرد دوره في توظيف ذلك ويتبنى الروي تعريف القارئ على طبيعة تلك العوائل وطبيعة مناطقهم المفعمة بالجمال  والقاسية في الوقت نفسه، وهو في هذا كله لم يكن همه سوى بناء الحدث بمنطقية تجعلنا نستوعب حجم الدمار والخراب النفسي والاجتماعي الذي لحق بالفتاتين وبعوائلهما مع تركيزه الذي يحسب إليه وهو يتبنى رسم معالم تركيبة الشخصية ونوازعها وهي في اشد حالات القهر والحيف، الامر الذي جعل المتلقي يتخيل هيأة برفان وهي الشخصية المحورية في الرواية وصفاتها المتمثلة بالشجاعة وعدم الاستسلام الذي تثبته محاولاتها المتكررة للهرب من دون أن تترك صديقتها كوثر على الرغم من اتصاف الأخيرة بالخوف والتردد وعدم القدرة على التفكير الايجابي السليم.

في الرواية الكثير من الظلم يجانبه تطعيم شفيف من ذكرى تحمل لحظات حميمة وقصص جميلة في إطار الاسرة أو في إطار الصداقة والجمال أو في غياهب الحب وقصص العاشقين مثل قصة حب احمد وجوان وقصة الجدة الايزيدية وطبيعة علاقتها بحفيدتها برفان وقصص تصب في كينونة تكوين العائلة وعلاقة افرادها ببعضهم مثل الحيوات اليومية لعائلة كوثر قبل أن يحل الدمار في قراهم  وجميعها قصص لها دورها المهم والفاعل كي تتوزع وتتفرع مجموعة من الأحداث والأمكنة المترابطة، المفعمة بحمولة كبيرة من هوى النفس ومحاكاة الطبيعة وابراز القضايا الاجتماعية والبيئية المرتبطة بخصوصية القرى الشمالية في العراق ومعتقدات اهلها وتضاريسها وحيواتها العامة وهي مناطق تعايش ووفاق بين غالبية ايزيدية وتنوع إثني ديني  في مكان وزمان ملتبسين بالوضع الأمني والسياسي الذي هيمن على حياة الناس في ظل سيطرة داعش، وبذلك حاول الكاتب أن يكون في قلب الحدث الذي تم استيراده والهيمنة على تطبيقه في شمال العراق من قبل فكر همجي استحواذي، والحدث الذي اقصده هو تهجير الأسر على اختلافها واختطاف السبايا من النساء، وقد استثمره الكاتب لينير عتمة الافصاح عنه ويكشف اسراره ودقائقه، وما غمض منه وما كان مجهول، ليتكامل فيه البعد الافتراضي بالبعد الواقعي، ولتقترن المعرفة الموثقة بالذهن الجمعي للناس مع المعرفة المهنية الإبداعية وكلاهما من ضرورات الإحاطة بالفضاء الروائي كله وصولا إلى ادراك عناصر الهوية الثقافية المحلية في اتصالها وانفصالها مع وعي الحالة الوطنية العامة  وليحافظ على حياديته عبر الفصل بين الذات والموضوع، مكملًا المشاهدات العينية بالجوانب التخيلية، في مساحة من حرية التعبير والحركة، وعلى الرغم من أنّ المكان الافتراضي، هو نفسه المكان الواقعي، وحتى الانشغالات هي ذاتها بين الكاتب وراويه الافتراضي، لكنّ هذا لا يغير من مشروعية الحكاية، طالما أنها تأتي ثمرة لهذا التلاقح المتين بين العمل التخييلي والواقع، وفي حالة اندماج بين زمن الرواية والزمان الواقعي.

عرض مقالات: