اخر الاخبار

تطرح علينا الهوية الثقافية للدولة – إشكاليات عدة ؛ لا مشكلة واحدة : هل يمكن أن نعيش بهوية ثقافية واحدة في دولة متعدّدة القوميات والمذاهب والاديان؟ وقبل ذلك: هل الهوية الثقافية مبدأ ثابت أم كينونة متحرِّكة ؟ كيف تكون الدولة حيادية إزاء الهويات الثقافية؟  إن الهويات والثقافات وقائع سوسيو ثقافية خاضعة لسيروات متحرّكة مع قوانين تطور حركة التاريخ ، تتحكم فيها عوامل عدة ، منها : اللغة والتاريخ ، والجنسية والجنسانية ، والإثنية والدين ، والقومية ، وبذا فالهوية محكومة باشكالية ذات طبيعة إيديولوجية ، وخاصة على مستوى التحوّلات التي تستبع التغيّرات الناتجة عن التصادم السياقي بين الذات والآخر أو التناقض بين الخصوصية والكونية . وثمة تناقض مركب بين إنكار الاصوليين للحداثة ، وتجاوز الحداثيين للأصالة ، وقد أفضى هذا التناقض الى (صراع هووي) حول شكل الدولة ومحتواها الايديولوجي من خلال قيم لم تتثبت بعد في مقابل قيم لم تنهزم بعد أيضا ، مما أدّى هذا الصراع الى اجهاض النهضة وتعطيل تحديث البنيات الاجتماعية والاقتصادية .

ومن هنا لم تعد للدولة ثقافة واحدة متجانسة ، فقد تحوّلت الجماعات غير المتجانسة الى بؤر لصراع مفتوح على مستويات متعدّدة لهويات ثقافية متقاطعة ، تنتمي الى مراكز قوى مهيمنة ، وبازاء هذه الإشكالية ؛ إستدعى المنطق الداخلي للدولة ان تتبنى سياسة ثقافية في إدارة الانتماءات الهوية ؛ ولكن هل نجحت أم أخفقت ؟ وإلا ّ فما تعليل هذا التفكّك السياسي ؟

وما يعنينا أكثر: مم تتكون الهوية الثقافية للدولة؟

ينبغي الاعتراف بأن المجتمع الذي تحكمه الدولة العراقية : مجتمع ذو تشكيلات مذهبية ودينية وإثنية  مختلفة , لهذا تحوّل (التعدّد الهووي) الى تشظي سياسي وتفكّك اجتماعي؟ وإن كان التعدّد الهووي للثقافة ظاهرة صحية وليس مرضية ، فهل ينبغي ان تنبني سياسة الدولة الثقافية على وفق هوية وطنية؟ يبدو لنا ان الدولة العراقية (دولة محجوزة) أو (دولة محجورة) بسياج قومي إثني معين، وخاصة ان الهويات الثقافية( الرئيسية منها والفرعية ( كانت ولا تزال الدافع والمحرّك الأساس لقوانين عمل الدولة ، فالهويات ثابتة والثقافات متغيرّة ، ولكنها تصب مجتمعة في مجري الثقافة   الوطنية.

اذن كيف يمكن ضبط التسيير الذاتي لدينامية الدولة في التنوع الثقافي، وخاصة ان التنوع أحد أهم مصادر التنمية والنمو الاقتصادي والتحرّر السياسي من عوامل التبعية والقهر والاستلاب . وإزاء ذلك ، هل حقّقت الدولة العراقية حيازة جديدة بامتلاك النموذج التعددي للهوية الثقافية ؟

ان الدولة العراقية – دولة هجينة  (توافقية – قومية) ، لاهي دينية ولا علمانية ، لأسباب ناتجة عن إختلالات عضوية في طبيعة الدستور العراقي . ولا بد من توجيه الانتباه الى ان دال الدولة ودواله بمعنى التحوّل والزوال يرتبط بخيارات الدولة في التحرّر من الايديولوجيات القومية والدينية ، وخاصة ان القومية لم تعد “ رابطة قوية “ ، بل وأخفقت في كيفية تمثيل ذاتها النهضوية ، ليس لانها “ مرحلة وليس نهاية “ ، وانما لانها “ ذات طبيعة شعبوية معادية للديمقراطية “ ، حتى التاريخ لم يعد رابطة مشتركة للجغرافيا كوعاء سياسي للتاريخ المشترك .

من هنا نرى بأن القومية ، والقومية العلمانية على وجه التحديد – لم تعد صالحة لمفهوم الدولة ، وخاصة ان مفهوم القومية العلمانية يجمع بين الانكفاء على الذات والانفتاح على الآخر، ليس لأن العروبة جوهر أساسي في الاسلام ، وانما لأن الاسلام ليس واحدا ً في العالم ، فقد إنقسم الاسلام السياسي على ذاته الى خوارج ومذاهب وطوائف ، لهذا ظل “ حبيس الأفق الديني “ حتى تجّمد عند حدود الدولة وقومنة الأمة. وعند تصنيف الدولة العراقية نجدنا في حيرة : لمن تنتمي الدولة في هويتها الثقافية ؟ أهي اسلامية ذات طبيعة سياسية راديكالية ام دولة قومية ذات طبيعة دينية هجينة ؟ وفي القرن الواحد والعشرين ، أخذت الأمة العربية ، وحتى الاسلامية ، تتفكك فيها الروابط والهويات والعلاقات العربية الاسلامية ، وذلك على النقيض من دولة الامة الاوربية والأمريكية أو الوحدة الاوربية ، وذلك بعد أن تخطى الدمج الاجتماعي للقوميات التاريخية والحدود الجغرافية ، حتى أصبحت الهويات أكثر تمثلا ً لذاتها وأكثر اتساعا ً لاستيعاب العرقيات الأخرى ، وبذا فالدولة الاوربية أمة ثقافية وليست أمة قومية .

اذن هل بنا حاجة الى دولة – أمة بالمعنى “ الثقافي أم دولة – أمة بالمعنى السياسي ؟

إن الدولة “ القطرية “ أو “ الوطنية “ أو “ دولة  ما بعد الاستعمار “ لم تتمكن من بناء هوية ثقافية بديلة عن الفكرة العربية ، وقبل أن تكون الدولة نتاج تقلبات تاريخية وتحوّلات جيوسياسية كانت نتاج تاريخ هجين من (العثمنة) و(التتريك) و(الاستعمار) ، والمزاج السياسي المتقلّب عبر تاريخ الانقلابات السياسية والثورات الوطنية . ولم تتطور أنماط الدولة ، بل وافتقدت الى المأسسة التاريخية لوجودها ككتلة محصّنة ضد العصبيات القبلية والنزعات الاقليمية ، لهذا إفتقد المجتمع الى الدولة كناظم مركزي له. اذن نحن إزاء دولة ليست دولة مواطنة ولا دولة أمة بالمعنى الاصطلاحي الدال عليها ، فالدولة سائرة نحو التفكك ، ولكن ما الأسباب المحرّكة والدافعة لتفكك الدولة ؟ لم يعد ثمة انتماء وطني للدولة ، فالانتماء اليوم للعرق والمذهب والقبلية ، وليس للدولة ، وهذا ما يجعل الفوضى غير البناءة تتحكم في دولة التفكك وإلحاقها بالتبعية الاجنبية.  ومع كراهية الديمقراطية ، يمكن أن نلحظ أيضا بأن التفكك يزداد أكثر من حيث غياب سلطة الدولة ، وضعف مركزية إدارة الأطراف ، وصراع الهويات الثقافية، مما تجذّرت النزاعات القومية والعرقية والاثنية والمذهبية على نحو أكثر عمقا ً واتساعا ً ، ليتسع التفكك ويتعمق أكثر من أسفل الطبقات الى سلطة الدولة ، ومن أعلى السلطة الى أسفل البنيات التحتانية ، مما يقود ذلك الى تقويض مركزية الدولة ، ولكل ذلك ، فقد أخفقت الديمقراطية لتبدأ مرحلة جديدة من تداول الاستبداد وتحوّل الديمقراطية الى ديكتاتورية جديدة . وبهذا أنتجت الديمقراطية بنية مجتمعية مقهورة ، وذلك لأسباب منها إنقسام الدولة على ذاتها ، إثر إنحلال القوميات الإثنية ، وتحلّل الطبقات الاجتماعية ، مما تعدّدت الولاءات بتعدّد الجماعات ، حتى برزت إشكالية جديدة معقدة ؛ مَنْ يحكم مَنْ : المجتمع أم الدولة ؟ وان كان المجتمع قد تفكّك بتفكّك الدولة ، فهل من سبيل الى إعادة بناء ما تفكّك من مجتمع الدولة ؟ ذلك هو الوجه الآخر من المسألة.

________________

*ناقد وكاتب

 

عرض مقالات: