اخر الاخبار

بقول بديهي نذكر: ان الدولة كيان لإقليم جغرافي سياسي اجتماعي ، يضم سكانه، له حدود طبيعية او هندسية، تفصله عن جيرانه من الكيانات المجاورة ، المماثلة له. يُفْتَرَض ان تكون لهويته صفات مشتركة خاصة بسكانه. والعراق ـ موضع القول ـ هو من أعرق البلدان وأكثرها حفاظاً على هويته الديموغرافية (السكانية) ، على الرغم من توافد الهجرات إليه ومنه باستمرار.

ان السؤال المحرج قديماً وحديثاً هو : هل حافظ البلد فعلاً على هويته الكاملة حقاً؟ إننا ـ ومعنا جميع بلدان العالم ـ لم نستطع الحفاظ على هوية دولتنا كاملة لظروف موضوعية حتمية متمثلة بكثرة الأقوام الغازية للبلد وكثرة الأقوام الذائبة بسكانه، كذلك حال الهجرات الخارجة منه الى بلدان أُخرى. وتأسيساً على هذا يجب ان نهمل العنصر القومي ـ مؤقتاً ـ لتحديد شكل الهوية الخاصة بدولة العراق، ويظل عنصرا الثقافة والمجتمع حاضرين لكل مقياس او حصيلة حضارية لتحديد ماهية هوية الدولة العراقية.

اننا في هذا الفهم نريد ان نحدد العناصر الأساسية والمكملة لهوية الدولة العراقية، لذا سنلجأ الى الترسيم الآتي :

أولاً : الهوية الأُولى : القوة

كثيراً ما ارتبط تماسك الهوية بقوة الدولة من الجوانب (الاقتصادية وحصانة الحدود وقوة السلطة من جانب العلم والأمن والجيش والادارة والمواصلات والعلاقات الخارجية) . ونحن هنا لسنا بصدد الماهية المركزية للسلطات الحاكمة في العراق. اننا بإزاء الاشارة الى المثال العراقي ، لذا نقول :

1 ـ لم تُبنَ سلطة في العراق على أسس تخدم قوة تماسك المجتمع إلّا لفترات قصيرة جداً من تاريخ العراق، مما يعنى عدم قدرة الهوية العراقية الكاملة على التماسك المفترض ، انما ظلت هيمنة الدكتاتوريات شبه مستدمية ، ومتحكمة بصياغة الهوية على النسق الذي يخدمها.

2 ـ لم تكن السلطات الحديثة المتعاقبة قادرة على خلق كيان ثقافي متفهم وواع يُسهم في خلق تماسك اجتماعي صلد ، يقاوم اي السلطة التي تتعاظم عليه ، بل ان مصالح الكيانات الداخلية الصغيرة صارت أحياناً ـ كما الآن ـ تتغلب على مصالح الوطن والناس وتُسهم بتفتيت قوة الهوية الوطنية للبلاد ـ إلّا نادراً.

3 ـ لم تستطع القوى الصالحة لإدارة البلاد ـ على ندرة أزمان تسلمها للسلطة ـ من تقوية عناصر الوحدة الوطنية ، وعياً وثقافة ، التي هي المظهر الأهم من سمات هوية الدولة. وسبب ذلك يكمن في توحد البلاد المجاورة في معاداة وحدة الهوية العراقية.

* مع كل ما سبق فقد حصل الآتي :

1 ـ يحاول المجتمع العراقي ان يكون أكثر حكمة وروية ومقاومة لأي عدوان خارجي ، حتى لو كان الوعي الاجتماعي لا يتقبل السلطات الحاكمة الظالمة.

2 ـ ان المجتمع العراقي برغم ضعف بناه الماسكة لوعيه ، لكنه كثيراً ما يلجأ الى الروح الإنسانية والى ضمير الحق الفطري فيه ، ليعالج الفتنة والقتال الطائفي، الذي يكاد يكون صفة من صفات الهوية العراقية للسياسيين على مر العصور.

3 ـ ان المصاهرة بين الطوائف والمِلل والأقوام شبه الثابتة بالعراق وقدراتهم على خلق نوع من التآخي، لم يتوقف على مدى الظروف والأوقات العصيبة والمفرحة كلها.

* ان الهوية الأولى (القوة) لتلك العناصر يمثلها الكيان الجغرافي والتاريخي للبلاد.

ثانياً : الهوية الثانية : الاقتصاد

ان الثروة وما يتبعها من إدارة هي الممول الثاني لطبيعة الهوية، كونها تديم العناصر شبه الثابتة، فتجعلها ثابتة عند تقادمها وتمازجها المستمر، والعراق بلد ثري على المستويات القياسية كلها، لعل وجود دجلة والفرات والأراضي الخصبة وملاءمة المناخ والمواصلات، أهم مظاهر هذا الثراء. لقد صارت الثروة مشكل قيمي للهوية الاجتماعية، أذ ان الثروة:   

1ـ صنعت الأعداء شبه الدائمين للعراق، وربما وَحَدَت العالم كله للنيل من العراق، فصار الغزو والعمالة والجاسوسية طبيعة لهوية البلدان المجاورة، وبعكس ذلك صار الدفاع عن البلد طبيعة تُسِم هوية سكان البلاد.

2 ـ ثروة العراق شجعت الحكام ليتنافسوا على السلطة لأجل الاستحواذ على القدر الأكبر من الثروة، وأحياناً يتعاونون مع الأجنبي للتغلب على المنافسين في الداخل، وبعكس ذلك يلتزم الفقراء بأعمق مشاعر التضحية والفداء لحماية بلدهم وصيانة ثرواته.

3 ـ التمازج بين المصالح للأفراد ـ في المجتمع ـ له حدا فعل: الأول يخص الحكام وبطانتهم الاقتصادية، يعملون على إفقار الناس ليغنوا مقابل ذلك، وأفراد وطنيون آخرون تتماسك عُرى علاقاتهم من أجل البناء وصنع الوعي الاقتصادي بين طبقات المجتمع، مما صنع للهوية العراقية ضلعين غير متصلين، وهذا كثيرا ما يضيع فرص حضارية خطرة ودقيقة على مستقبل البلاد مثلما يحدث الآن.

ثالثاً : الهوية الثقافية    

انها من أخطر وأغنى وأدق العناصر المُشكلة لمشتركات الهوية العراقية، فبها يتعلق تاريخ البلاد وتراثه وطقوسه وتقاليده ودياناته وانتماء مواطنيه. ان الثقافة العراقية ـ على مدى تاريخ العراق ـ اتسمت بـ /

1 ـ انها منبع حضاري لا يمكن تجاوزه، لا قديماً ولا حديثاً، فالعراق موطن الإنسان الأول، وسلة غذاء الشرق، وبوابة البحار الى المحيطات، ومسار التجارة في البر والجو والبحر.

2 ـ ان السكان في العراق ـ بسبب اختلافهم وتعاشقهم القومي والتراثي، تولد لديهم حِس وطني واحد بالانتماء للأرض والناس والجغرافية، كون تربة العراق الطيبة طيبت ووحَّدَت نفوسهم وروحهم الإنسانية العفوية الصادقة، فصارت وحدة الروح والوجدان والتقاليد والطقوس من أبرز مضامين ومظاهر وحدة الهوية العراقية.

3 ـ ان الأدب العراقي كان وما يزال يتصدر الوعي الإنساني الداعي الى الخير والمحبة والسلام، والود، والتكافل، يُسهم بذلك مثقفو البلاد وعلماؤه والفنانون وأهل المعرفة كلهم إلّا نادراً.