اخر الاخبار

بحثاً عن الخمس الخامس في يوميات أقدم نص بالعالم

كيف يمكن بحال أن تترتب أو تتزامن يوميات أقدم نص في العالم، لم تكتمل سطوره وألواحه تماماً حتى هذه اللحظة، منذ إن كُتب لأول مرة باللغة الأكدية في ما يقرب من أربعة آلاف عام، وأعيدت كتابته في العهود البابلية القديمة والوسيطة ثم دفن في الرمال الرافدينية زمناً طويلاً حتى أستخرج في العصر الحديث في العام 1872؟

إنها يوميات الإكتشاف الأثرية التي تستخرج كسرالألواح من الرمال والتلول الرافدينية مثلما تستجمع أجزاء صورة ممزقة لتستكمل صورة كلية للسطور والألواح كما يشبهها الدكتور نائل حنون في ترجمته الحديثة المباشرة للملحمة عن اللغة الأكدية، مشيراً بأن كل ما أكتشف من النص، وعلى حقب متفاوتة منذ أكثر من قرنين من الزمان،  يشكّل أربعة أخماس الملحمة فيما بقيّ الخمس الخامس رهناً بما يتوصل إليه علم المسماريات، وما يفد من رقيم الكتبة القدماء واثبات الملوك السومرية وأخبار الطوفان. وهذا الخمس الخامس المتبقي، لم يعد جزءاً من يوميات الإكتشاف التي تتبع الأثر وتستكمل صورة النص في تل قوينجق في العاصمة الآشورية نينوى وفي الشام أو الأناضول، بل هو جزء من العقل النقدي الرافديني الحديث وبنائه السردي في الفضاء الاجتماعي والتاريخي واللغوي، الذي يواصل يوميات إكتشاف القراءة في الكتابة النقدية الجديدة الى جانب يوميات إكتشاف الأثر من مظان الرمال. ولعل من يقف في مقدمة يوميات إكتشاف القراءة في العقل النقدي الرافديني الحديث الناقد والباحث والروائي ناجح المعموري إذ قدم الكثير في هذا الحقل وخاصة في كتابيه الأخيرين، “ المسكوت عنه في ملحمة جلجامش” و “ اليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش”، الصادرين عن دار المدى 2015-2023، بما يكرّس تجربته الثقافية باتجاه تأصيل الكتابة بوصفها نواة لإستشراق محلي، يعيد قراءة السرد الرافديني خارج سياقات المركزية الاستشراقية الغربية، ويسهم في رفدها بما تفتقده من محتوى الفضاءات الزمنية والتاريخية واللغوية والاجتماعية، ويحقق تواصلاً قومياً مع الأثر القديم. كانت النافذة الغربية على التراث الرافديني، تطل على فضاءات المتاحف وأرشيفات التنقيب، وتغيّب الفضاءات التاريخية ومحتواها المحلي كونه المجال الحيوي للعلاقات بين البنى التاريخية والاجتماعية واللغوية فيما تصدت السردية الجديدة سواء على مستوى البحث في سياق إكتشاف الأثر والقراءة أو بما يتيح التوصل في سياق علمي الإجتماع واللغة، على سبيل المثال، فان اللغة الأكدية التي تعد اللغة العربية وريثتها كما يذكر الدكتور نائل حنون في ترجمته لنص جلجامش، الأمر الذي يجعل الدراسات المقارنة بين اللغتين، تنفتح على المزيد من التطورات في هذا المجال، وتحقق سبقاً قومياً ما كان بوسع الاستشراق الغربي لأسباب أممية الخوض فيه، وكان كما يؤكد حنون من “المفترض التفكير مبكراً في الاستعانة باللغة العربية للوصول الى نص الملحمة ومعرفة صياغته ومعانيه”.

وبذلك فان ما تضطلع به يوميات الإكتشاف الأثرية، سوف تتواصل معه يوميات الإكتشاف القرائية وعبر مسافة أو فسحة علامية متغيرة، تسعى الى إملاء الخمس المفقود وتعيد بناء العلاقات البنيوية بين نص الملحمة وفضائه التاريخي والزمني. وهذه المسافة العلامية المتغيرة باستمرار بين الدال – الأثر- وبين المدلول – القراءة-، يستثمرها المعموري في تقديم قراءته السردية لنص الملحمة مستعيناً بتجارب نقدية محلية وعربية وعالمية، ومصادر منهجية في سوسيولوجيا الشعر ونقد الحياة اليومية وتفاعلاتها الشفوية ليتوجه بها نحو أسوار أوروك وأبوابها ومعابدها وشعائرها العامة، ويفصل بين البنى الموضوعية والانسانية، ليعيد فحص العلاقات الحيوية بينها وبين محتوى النص.

لقد إعتمد الباحث في قراءة نص الملحمة والاستهلال على وجه الخصوص على ترجمة طه باقر الصادرة في العام 1980فيما استحدثت ترجمة أخرى للدكتور نائل حنون في العام 2006 التي لم تغب عن مصادر المعموري في كتابه الأخير، وتبعاً لما ذكرناه في عملية التطارد بين الأثر والقراءة، فان ترجمة حنون قد أضافت معانياً جديدة خلت منها سابقاتها، ودعت الى تصحيح ما ورد هنا وهناك في ألواح وسطور الملحمة، على سبيل المثال فان الاستهلال النصي الذي عده الباحث مكوناً مركزياً في الملحمة، ويحتوي على أنواع من الترددات، تردد المعنى، التردد النحوي اللغوي، وهذه الترددات والتكرارات لها محتواها التواصلي المنسجم مع نص الاستهلال وأي متغير، يطرأ على وقعها في الشكل اللغوي والمعنى، سوف يحدث تغييراً في مستوى القراءة، ويعد كذلك مهما كان طفيفاً. تبعاً لهذا، أورد الباحث المعموري السطر الأول من الاستهلال حسب ترجمة طه باقر الذي يقول: هو الذي رأى كل شيء فغنّي بذكره يا بلادي. بينما ورد في ترجمة حنون لنفس السطر: هو الذي رأى المنبع أساس البلاد.

أن حاصل جمع المتغيرات في النص الجديد بوصفه أثراً، يعيد ترتيب المباني والمعاني في الملحمة على نحو تواصلي من تردد لغوي الى آخر، وسوف يحوّل منظومة التواصل الى رسالة لغوية ذات معنى جديد في تفصيل محدد، يقتضي استثمار اليومي والمتكرر له ثانية. في السياق نفسه، يذهب رولان بارت الى ان الاسطورة ليست موضوعاً أو مفهوماً وفكرة بل انها صيغة من صيغ الدلالة التي يعيد استثمارها المجتمع، والمعموري استثمر الأحتفائية الأجتماعية باليومي والمتكرر في نص الملحمة من خلال تحويل الرؤى الاسطورية والقدسية والسماوية الى تفاعل رمزي واشاري في المدونات والملفوظات الشفوية فرسم جغرافية أوروك في مناورة الثلث البشري إزاء معادلة الثلثين السماوية للحياة والخلود، والسلطة والقوة. وحسب ترسيمة بارت العلامية فان الملك جلجامش في ثلثيه الألهيين، يمثل الشكل كصيغة للدلالة فيما يغدو الثلث البشري مدلولاً واقعياً، يحمل علامية المعنى، والباحث الاستاذ ناجح المعموري، استقصى المدلول الواقعي التاريخي والزمني للتعبير عن معنى الألهي والاسطوري والقدسي، لقد كانت الدلالة البشرية استعادة وتوجيه واقعي للرؤية الألهية.

_________________

*كتاب “ اليومي والمتكرر في ملحمة جلجامش” ناجح المعموري، الناشر- دار المدى- الطبعة الأولى 2023.

عرض مقالات: