اخر الاخبار

من الصعب الحديث بتجرد عن الهوية الثقافية، من دون الحديث عن المقومات التي يمكن أن تنمو فيها هذه الهوية، على مستوى تأمين ظروف تداول خطابها، أو على مستوى تحولها الى قوة دافعة تتسع معها عوامل التنمية، والتعايش والقبول بالآخر، أو على مستوى الاطاحة بالمركزيات القهرية الحاكمة، بما فيها مركزية الديكتاتور والطاغية والمُستبد، فضلا عن مركزيات النمط والتقليد ومفهوم “الجماعة الناجية”.

الالتباس في مفهوم الهوية، يتعالق بالاتباس في التعاطي مع مسؤولية قراءتها، ومع طبيعة فهمها وتوظيفها، وامكانية تحويلها من نمطية التشيؤ العنصري الى الفضاء المؤنسن، القابل للتعايش، والقادر على تجاوز عقدة ثنائية (امين معلوف)، في تمثّلات “الهويات القاتلة والمقتولة” لكن خطورة صناعة “هذه الهويات” يكمن في معرفة العوامل التي تصنعها، والمسؤولة عن سياق تكريسها في المنظومة القديمة، وفي التأقلم مع تمركزاتها السياسية والاقتصادية والامنية وحتى الجندرية، والتي صنعت لنا طوال قرون اشكالا معقدة للحكم، ولتداول مفهوم القوة، والخطاب، والثروة، والتي جعلت من “ثقافة الهوية” رهينة بتمثلات تلك الاشكال، وبمدى تعبيرها عن ثقافات الجماعات، وعن مدى حيازتها غير المشروعة لعناصر الثروة والامن والمخزون..

قد يكون مفهوم الهوية “جديدا” في سرديات العقل الثقافي، لكنه في الحقيقة قديم، ومخفيٌّ تحت نظام الهيمنة، وفي مسكوتات عنفه الاجتماعي والثقافي، والذي فرض تمثليه لتلك الهوية عبر أطروحة “الهوية الصافية” التي تملك القوة والمقدس، وتضع المعارضين لها خارج سياق الأمة والملة، واتهامهم ب”الزندقة” وهي تهمة سياسية، أكثر من كونها دينية، بقطع النظر عن مرجعياتها الطائفية او الأثنية او الدينية، واحسب أن ضحايا الصراع الهوياتي في العراق التاريخي والسياسي أكثر من ضحايا الصراع في الحروب الكبرى.

المعارضة والوعي بالهوية

تاريخ التمردات والاحتجاجات في تاريخنا العراقي لم يكن بعيدا عن  موضوع الهوية، بوصفه تمثيلا لوعي الجماعات لحقوقها، ولخصوصياتها الطبقية والاجتماعية، والدينية والطائفية، وحتى ما سُمى ب”التظاهرات الوطنية” ضد الاستعمار، وضد الحكومات الرجعية كان جزءا من  هذا التوصيف، إذ يمثل الاستعمار الاحتكار والنمط المتعالي في انتهاك السيادة والحقوق وفي نهب الثروات، مثلما أن السلطات الرجعية تمثل العنف والزيف والفساد والظلم والتبعية والاستغلال، والتهويم بشعارات زائفة عن “الهوية الوطنية” وعن “الدفاع الامة” و”طاعة ولاة الأمر” وغيرها من الشعارات التي تتميّع فيها القيم الاخلاقية والانسانية والنقدية للهوية..

صناعة الخطاب المعارض، ليس خطابا في “التجريد الثوري” بقدر ماهو خطاب يدفع باتجاه تسويغ الحديث عن هوية هذا الخطاب، من خلال رفضه للنمط الشائع، وللسلبية التي يحملها البعض، ومن خلال التعريف بقواه المنتجة والفاعلة، وتوصيف بيئته التي تستجيب لعوامل التغيير، والقبول بالآخر، وايجاد الفضاءات التي تتأنس فيه المفاهيم التي تخص صناعة الهوية، بوصفها القوة الاجرائية لأية معارضة ترفض الأمر الواقع واشكال الاستبداد، فالمواطن، والقانون، والحق والحرية والعدل والسلام الاهلي، كلها مفاهيم نظرية في سياقها، لكنها اجرائية في تطبيقها، لكنها تحتاج الى قوة فاعلة لوضعها في السياق، أي السياق الذي يرتبط بمشروع الدولة الوطنية” بوصفها نتاجا تاريخيا للنضال الاجتماعي، والثقافي، وتتويجا لصراعات قادتها المعارضات الوطنية، والتي جعلت من دوافعها في النضال الطبقي والسياسي والثوري رهانا على مواجهة الاستبداد، وتقويض بنى العنف الاجتماعي والسياسي، والعمل على اعادة تاهيل مؤسسات الدولة عبر القوانين، وعبر الحكم الرشيد، فضلا عن معالجة الاسباب التي أدّت الى صناعة العنف، والدولة المُستّبِدة، وأنموذج الطاغية، وهو ما يعني اعادة النظر بمظاهر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الناس، وانهاء ظاهرة “عسكرة الدولة” التي تكرّست طوال عقود، حيث تغوّلت فيها نزعات الكراهية والانقلابية، والعنف والقمع، وكذلك نمطية الاقتصاد الواحد، والذي يدفع دائما بإتجاه انتاج مظاهر عنفية للاحتكار والفساد، لأن طبيعة هذا الاقتصاد المشوّه ترتبط بنمطية السلطة الريعية، والعقل الريعي، وصولا الى الاحكتار الريعي، الذي ستمتلكه السلطة الحاكمة واوليغارشيتها، والتي وجدت في هذا “الاقتصاد الرخو” مجالا لتنامي الثروات بشكلٍ غير مشروع، بعيدا عن الرهان على بناء الاقتصادات الجديدة، حيث الاستثمار، وتجديد السياسات الاقتصادية والسياسات البنكية، وغيرها من العوامل المسؤولة عن صناعة “الدولة الناجحة”

الهوية والاصلاح الاقتصادي.

بقدر ما يظل موضوع الهوية مثارا للجدل، فإن البحث عن تقعيد منهجي له، يتطلب جملة من المقاربات، التي تخص تداوليته في واقع عراقي ملتبس وغامض، وغائر في تاريخ دام من الصراعات الفاجعة، والتي ارتبط اغلبها بالفرضية الطاغية ل”الهوية الواحدة” بوصفها العصابي المركزي، وبنمطيتها في تكريس سياسات العزل والقهر واقصاء الآخر، واذا كان الاستعمار في مراحله الأولى قد عمد الى تسويق صورة النمطيات الحاكمة، عبر الوظائف، وحيازة الثروة والجاه والسلطة، فإن ما سُمّي ب”الدولة الوطنية” كانت اكثر قسوة في صناعة التوحش السياسي، وحتى صورة “الدولة الفاشلة” عبر أنموذجها العسكري الانقلابي والايديولوجي، وعبر عجزها عن تشييد اقتصاد وطني تتعزز فيه بنيات المؤسسات والقطاعات الفاعلة، وانجاح السياسات الاستراتيجية، على مستوى بناء صناعات وطنية، وبناء مشاريع زراعية واسعة، وبنيات تجارية محكومة بقوانين تحمي الثروة من جانب، وتشجع على تنمية التبادل التجاري مع الدول الاخرى من جانب آخر.

الاصلاح الاقتصادي، يعني اصلاح بنياته الاستراتيجية، عبر تطوير وتوطيد عناصرها القوية، والمبنية على أسس علمية، وعبر مشاريع ربحية، يتعزز فيها الاشباع الوطني، واستثمار ثرواته واسواقه، بعيدا عن صورة دولة المديونيات، والفقر الستراتيجي، وسوء المهام الادارية والمصرفية والضريبية، وهي عوامل مهمة في بناء الدولة الفاعلة..

الهوية والمشروع الثقافي

مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم التباسا في التوصيف والتعريف والاجراء، لكنه يظل بالمقابل مفهوما مرنا في تأطير مستويات النظر الى علاقة الثقافة بالهوية، لأن الهوية على الرغم من مرجعياتها الثقافية،

ظلت رهينة بما هو عصابي وطائفي وقبائلي، وهذا ما يدعو الى ضرورة تنمية الجهد الثقافي للتعريف بقيمة الهوية كمرجعية ثقافية، متجددة، وليست ثابتة، وكقوة جامعة للتعايش عبر القانون، وعبر العقد الاجتماعي، وتغذية ذلك عبر مراجعة اسس التعليم،

وبرامج التنمية البشرية،

وتشجيع عمل القطاعات المدنية، والنقابات التي تمثل المنصات الخصبة للتعبير عن القيم الهوياتية، وتشجيع الفاعليات الفنية والادبية والمعرفية، وجعلها جزءا من السياسات الكبرى للدولة ومؤسساتها، فضلا عن المطالبة باعادة النظر بكثير من القوانين الكافلة لحريات التعبير والرأي، ومايخص المحتوى الثقافي، بعيدا  عن أيّ تعسف قهري، تقوم به الجهات الامنية،

وتحت يافطة حماية الذوق العام، والهوية الوطنية، وهي عبارات مضببة، وغير واضحة.

إن النجاح في ادارة الملف الثقافي،

يفتح أفقا لمقاربة ربط هذا الملف بالملفات الأخرى، لاسيما السياسي والامني والاقتصادي، لأننا لا يمكن أن نتحدث عن موضوع الهوية الثقافية، دون الحديث عن عناصرها الحمائية التي تخص النجاح في ادارة السياسات التعليمية، والتربوية والاعلامية، وتهيئة البيئة الاقتصادية لدعم هذه السياسات،

على مستوى صناعة البرنامج، والاليات، أو على مستوى دعم عمل المؤسسات غير الربحية، فضلا عن تبني الدولة سياسة واضحة تقوم على انضاج مشروع الهوية بوصفه موضوعا سياديا وانسانيا،

لا سيما في مجتمع تتعدد وتتنوع مكوناته وثقافته، والذي يتطلب وعيا مسؤولا بحُسن ادارة التنوع، وعلى اسس قانونية تكفل الحريات والعدالة الاجتماعية،

والحقوق المتساوية، وبما يُسهم في صناعة صورة ذهنية متعالية عن تداولية هذا المفهوم في العلاقة مع الجماعات العراقية، وفي الترويج له في الخارج، لترميم ذاكرة تلك الصورة التي تشوهت مع الاستبداد السياسي ومع الاحتلال والعنف الاهلي ومع الجماعات الارهابية التي فرضت سلوكها النكوصي على عدد من المدن العراقية.

_______________

*شاعر وناقد/ رئيس اتحاد الادباء والكتاب في العراق

عرض مقالات: