اخر الاخبار

مصير

ليلة أمس، شارفتُ على وضع اللمسات الأخيرة لآخر عمل روائي لي . ثيمة نهاية الرواية مبنية على موت بطلها قتلاً . وبعد الانتهاء من كتابتها، إرتأيتُ الخلود للنوم، على أمل مراجعة بعض فصولها في وقت آخر إن تطلب الأمر.. مرّ وقتت، لم أدرِ إن كنت فيه قد إستسلمت للنوم فعلاً، أم أنني ما زلتُ نصف مستيقظ، وإذا ببطل روايتي يقف عند رأسي مشعث الشعر مرتبكاً و يلوح الحزن على قسمات وجهه.. أخذ يتوسّلني ويبكي، سألته: “ ماذا تريد مني في هذه الساعة ونحن نقترب من الفجر وقد أزعجتني بإيقاظك لي ؟ “ . قال بإرتباك .. “ أرجوك يا سيدي إستبدل نهاية الرواية ولا تجعل مصيري فيها، كما فعلتَ،  مقتولاً ببشاعة بحيث يقومون بقطع رأسي بهذا الشكل المرعب.. فأنا ربّ عائلة كبيرة  ، وفضلاً عن ذلك، أنا أحب الحياة وأعشقها بجنون، فأرجوك غيّر مصيري فيها.. “ . سكتَ لبرهة منتظراً صدى مناشدته لي .. قلت له والحيرة تنتابني، “ ما الذي أفعله إذا كانت أجواء القصة تتطلب قتلك وبهذه البشاعة ليكون تأثيرها قوياً على نفسية المتلقي ... “ . إنعكس كلامي عليه ثقيلا فإزداد توسّله على ضرورة قيامي بتغيير مصيره في نهاية العمل، منطلقاً من مدى حبّه للحياة وتشبّثه بها . “ فليس من الإنصاف يا أخي , أن تكون بهذا القدر من القسوة  “ . توسّله بي زاد من حيرتي وإرتباكي وشعرت بالحرج، كنت محرجاً أمامه، ولا أستطيع البوح له بما يعتمل في صدري من سر هو لا يعلم به،  وأنا لا أمتلك القدر الكافي من الجرأة بحيث أخبره بحقيقة الأمر،  وإن فعلت ذلك وبحتُ له بسر نهاية حياته في الرواية بهذا الشكل سيعود عليّ بضرر فادح .هو راح يبكي ويناشدني بإنسانيتي أن أتركه حياً بدلاً من قتله مقطوع الرأس، ثم دغدغتْ مشاعري مفردة الإنسانية التي ناشدني بها فأشفقتُ عليه حقاً،  ثم قررتُ أن أخبره بحقيقة الأمر مهما كان ثمن إفصاحي عن هذا السر الذي لا ينبغي لي البوح به تحت أي ظرف فقلت له... “ يا سيدي إنّ رسم مصيرك بهذا  الشكل، أمره ليس بيدي فهناك جهة أقوى مني ومنك، هي التي إختارت لك هذه الميتة .. “ . وقع قولي عليه كوقع الصاعقة، ولكي أخفّف عنه بعض ما شعر به من فداحة مصير حياته المشؤوم، سارعتُ بالإسترسال في حديثي له مبيّناً مصيري أنا أيضا،  فقلت له ولكن بمرارة وحزن “ يا سيدي... أنا الآخر في نهاية الأمر، وكما أخبروني، سيجبروني على الموت مثلك، شئت أم أبيت، ولعل نهايتي على أيديهم،  ستكون أبشع من نهايتك .. “ . ما إن إنتهيت من كلامي حتى سارع بمغادرتي بصمت وهو يتلفت خائفاً،  لكن الذي آلمني حقاً هو أنني لمستُ فيه أثناء إنصرافه عني، بعضاً من الإرتياح النسبي بدا واضحاً على قسمات وجهه من حيث لا يقصد ذلك ، إذ أجّج ما أخبرته به عن مصيري الذي أنتظره،  بعضاً من أنانيته الكامنة في لا شعوره الباطني وأنه، لا شك،  شعر مع نفسه بقبولٍ قسريّ لمصيره، طالما أنني في النهاية، سأقاسمه المصير معه،  وقد يكون ذلك، كما تصورتُ، سبباً خفّف عنه وطأة مصيره المأساوي في نهاية الرواية .

ميدالية

أكثر من عشر سنين مضتْ على مغادرته لوطنه الإم . كرياضي، كان طموحه يتنامى مع نمو جسمه بقوامه الممشوق وعضلاته المفتولة . ملامح وجهه بسمرتها المعهودة، تعكس بصمة بلده . خاض آخر تنافس رياضي في البلد الذي يحمل جنسيته الآن، فتقدّم على الجميع وأهلّيتهم للفوز . صعد المنصة ليقلدّه مسؤول البلدة الجائزة، حيث  أصبح أحد مواطنيها، القلادة الذهبية كفائز أول على كل أقرانه .صفّق الجمهور له بحرارة فيما عيناه كانتا تمسحان بنظراتهما الجماهير المحتشدة والتي لم ينقطع تصفيقها له . أحنى رأسه قليلاً كما لو كان يريد تقبيل الميدالية أو لعلّه أراد تفحص جماليتها . كان بريقها يعكس الأضواء التي طغتْ بشدة على المكان كلّه . أنامله السمراء أمسكت بطرف الميدالية وشعر بالزهو يغمره . لكن مشاعر الفرح تجمّدتْ وغادرت سحنة وجهه الأسمر. كان واضحاً أنّ عبارة ما لم ترق له، كانت منقوشة على وجه الميدالية . تفحصّها مرة إخرى ليقطع شكه باليقين فتأكد بأنه لم يخطئ .. ثم .. سرعان ما قام،  وبعصبية واضحة، بقطع سلسلة الميدالية ورماها على خشبة المنصة  التي غادرها بسرعة أيضاً وسط دهشة المسؤول والجماهير على  السواء .