اخر الاخبار

يعد الفن الابداعي من منطلق عام كافة النتاجات التي خرجت عن القواعد والاصول المتعارف عليها من خلال استعمال تقنيات جديدة تحاكي المتلقي والمتذوق وتحاول ان تشد بصيرته الى تلك المكونات البصرية، ولا يخفى ان الكثير من المنظرين للفن قد وضعوا معايير مهمة لقياس الابداع في الفن ومن تلك المعايير هي الاصالة في العمل، والطلاقة والمرونة التي تشكل اساسا في الحكم على الفن بانه فن ابداعي جديد. من المسلم بالامر ان الفن الجديد او الفن المبتكر او الابداعي لن يكون بمعزل تام عن تحولات الفنون ومدارسها الفنية من الكلاسيكية مرورا بالانطباعية فالسوريالية والتجريدية حتى تيارات ما بعد الحداثة والمعاصرة التي يعيش فيها الفن اليوم. ومن تلك الظواهر الجديدة هي ظاهرة القمامة وما تحتويه من مخلفات عضوية وغير عضوية صلبة ولدنة تقبل التشكيل والقولبة. من هذا المنطلق المهم كتب المؤلف الدكتور بلاسم محمد كتابه المهم في هذا الحقل المعرفي المهم والموسوم (الفن والقمامة)، من عنوانه المثير للجدل والمشوق في قراءة مكوناته وفصوله المتتابعة بشكل اكاديمي وخاضع للدراسة والنقد التحليلي لمفوم الفن التشكيلي تحديدا وتحولاته البصرية والتقنية التي بدأت تتركب من مواد مختلفة وبتقنيات جديدة ومتميزة في طرح الافكار الذاتية التي يعبربها الفنان عن مايدور في خاطره من افكار يحاول من خلالها شد النظر، فهناك من يقول ان ما بعد الحداثة تعني الخروج عن القولبة او الواقع نفسه نحو الغرابة او الخروج عن الفن وقواعده.

اذ يشير المؤلف في حديثه عن تطور الفن الحديث عبر اتجاهات متلاحقة، اسهمت في تطور تلك المدارس الفنية المعروفة منها التنقيطية والانطباعية التي حددتها الاكتشافات الفيزيائية للضوء، ثم حضور الذات، والبحوث النفسية التي مهدت لظهور التعبيرية والسوريالية، اما التطورات التكنولوجية فقد وصفها المؤلف بانها مهدت وفتحت الامال الى مستقبل واعد لعصر الالة ونتاجاتها الحديثة، وحركيتها في المدرسة المستقبلية، والتركيز المبالغ على الالية والديناميكية في الاعمال الفنية.ويشير هنا الى ان تلك الافكار قد اسهمت في التغير الكلي داخل الصرح الجمالي التاريخي، على مستوى الشكل والمحتوى والموضوع والخامة ووسائل العرض/ وكانت هزة عنيفة قد قوضت كل الانظمة القديمة، وفتحت المجال لتلاقح الفنون بعضها ببعض، ولم يقتصر اسلوب الهدم والرفض على الاعمال الفنية فحسب، بل سعى لان يصبح كل انسان فنانا مادام يعبر عن ذاته باسم الفن.

اشار الدكتور بلاسم محمد في فصول اخرى من هذا الكتاب المهم الى موضوع مهم جدا الا وهو مفهوم التغريب، اذ يشير الى ان التغريب في المعاصرة قد كسر كل الطروحات والافكار المألوفة والمتوقعة من قبل المتلقي، والسير به نحو مناطق غامضة غريبة مجهولة تثير الانتباه وتحفز فضول الرؤيا. لذلك فان هدف التغريب دفع المتفرج لاعادة النظر من جديد في الاشياء المألوفة، وهنا يستعين بمقولة للفيلسوف (شوبنهور) الذي يقول: ينبغي على الفن عموماً ان يقدم الاشياء العامة والمألوفة في ضوء ساطع، من هنا فالتغريب هو تقنية تقوم على ابعاد الواقع المصور اذ يبدأ الموضوع من طريق منظار جديد يظهر ما كان خفياً او يلفت النظر ما صار مألوفاً لكثرة الاستعمال. ومن المصطلحات المهمة التي وضعها المؤلف في كتابه هذا هو مصطلح (نهاية الفن) الذي وصفه بانه أشبه بالافكار السائدة التي تتحدث عن موت الشعر وموت الانسان وموت المؤلف وموت المتعة كاشارات جاك دريدا في دراساته حول الشعر والادب. كما وضع لنا مقارنة مهمة ما بين تحولات الفن الجديد والموروث الذي ظل راسخاً في فنون العديد من شعوب العالم المحافظة على سماته ومكوناته وحكاياته وملامحه الجمالية والظاهرية والباطنية، كما تطرق الى الحرية السائدة في الاستعارات للعديد من العناصر الفنية البصرية الشهيرة وعملية الاستلال وادخال تلك العناصر في العديد من الفنون الشعبية والتطبيقية والفنون التي تخدم الوظيفة من اجل اثارة المتلقي نحو الغرابة والدهشة، منها استعمال اشكال الموناليزا التي رسمها دافنشي في طباعة الملابس واضافة بعض المكونات الاخرى في شكلها وملامحها وخروجها عن واقعها الحقيقي.

لقد كان الحديث مهماً في محاولة استغلال القمامة وما تحتويه من عناصر مختلفة في التكوين والصفات المظهرية وآلية تعامل الفنان التشكيلي مع تلك القمامة، وهنا يقول الدكتور بلاسم محمد (بالنسبة للذين يجادلون بان هذه الاعمال خدعة يمكن يمكن للمرء ان يجيب بان هذه القطع من القمامة كانت تثير اهتماما اكثر من اي شيء فني اخر داخل المتحف، وتوحي هذه الامثلة، ان داخل النفايات والقمامة تمكن امكانات جمالية كبيرة، يمكن للاشياء المهملة ان تقدم وظائف اخرى غير وظيفتها، وان مبولة مارسيل دوشامب مثلا على تغيير قطعة زائلة وقذرة جردت من وظيفتها وصار لها سمو مفاجئ في الفن، على الرغم من ما ينظر على انها قذارة ومن المحرمات الاجتماعية).  تطرق المؤلف الى دراسة العديد من تجارب الفنانين العراقيين الذين تعاملوا مع مخلفات الانقاض والقمامة من خلال الكارتون او المعدات المعدنية التي صنعوا منها اعمالا ضخمة وجميلة ومعبرة منهم الفنان حسن العبادي الذي شكل العديد من المنحوتات من الخردة المعدنية التي قام بجمعها من القمامة، وكذلك تطرق الى تجربة الفنان  محمد تعبان الذي كانت له تجارب سابقة في ثمانينيات القرن الماضي في استخدامه لقذيفة مدفع بكامل عدتها عثر عليها من المخلفات الحربية.

الكتاب تناول تجارب مهمة وجديرة بالقراءة والمتابعة في ميدان الفن والتشكيل والقمامة وانواعها وابتداع الفن الجديد المعاصر. صدر هذا الكتاب عن سلسلة دراسات فكرية في جامعة الكوفة، وبالحجم المتوسط.

عرض مقالات: