من الواضح أن سلسلة الأحداث التي أعقبت الاحتلال الأمريكي وبسببه قد أنتجت بنية اقتصادية مشوهة وقاعدة تحتية محطمة وتضاؤل الأمل في رسم سياسة اقتصادية واقعية أدت إلى تدهور المؤشرات، حدت من إمكانية الاستثمار في معظم قطاعات الاقتصاد الكلي، وهذه الظروف جعلت من الصعوبة بمكان وضع نماذج قياسية تتمتع بمقبولية في النواحي الاقتصادية والاحصائية ما قاد إلى التمسك بالقطاع النفطي لتوريد المصادر المالية من أجل تلبية متطلبات الانفاق العام الذي تركز في الإنفاق التشغيلي على حساب الإنفاق الاستثماري.
إن مخاطر الاعتماد على الريع النفطي كانت موضوعا لتقارير صندوق النقد الدولي التي أوصت العراق بتقليل الاعتماد على النفط في تحقيق الموارد المالية والتوجه لزيادة الإيرادات غير النفطية وضغط الانفاق العام عبر تخليصه من الأرقام المبالغ فيها( التي كانت أصابع الفاسدين واضحة في تضخيم تلك الأرقام)، من أجل ضمان الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية وتحقيق النمو بشكل مستدام، وتؤكد التقارير في البيان الختامي للصندوق إلى أنه من المتوقع ان يواصل العراق التوسع في النمو الاقتصادي نظرا للتوسع في المالية العامة إلا أنه حذر وكان مصيبا من زيادة كبيرة في التعرض لتقلبات أسعار النفط على المدى المتوسط والتوترات الإقليمية وإمكانية حصول أزمة في مسارات الشحن وتأخير سلاسل التوريد ما سيكون لها تأثير كبير ومباشر على أسعار النفط وتبعاته في نشوء أزمة مالية قد تضع أوجه الإنفاق وخاصة رواتب موظفي الدولة عل حافة الخطر وقد تتكرر لهذا السبب أزمة 2014 .
إن طبيعة النظام الذي أرسى أسسه الاحتلال الأمريكي والتدخلات الخارجية وانتشار الفساد بحجم ومستوى ما لم يحصل في بلد آخر وغياب الخطط التنموية الواقعية وهروب الرساميل المنهوبة وغياب التنسيق بين السياستين المالية والنقدية، تلك العوامل قد أزالت بمجرفتها المتوحشة كل القاعدة الصناعية التي ترعرعت في المراحل اللاحقة لثورة تموز عام 1958 ومنها على سبيل المثال لا الحصر مصانع الحديد والصلب والبتروكيمياويات والأسمدة الكيمياوية في البصرة والورقية والبلاستيكية في ميسان وغيرها الكثير من المنشآت الصناعية الحيوية الحكومية والتي تميزت منتوجاتها بجودة عالية تغطي الكثير من احتياجات السوق المحلية، إضافة إلى ما كان ينتجه القطاع الخاص من منتوجات نسيجية وغذائية وجلدية وأجهزة منزلية فاخرة والقطاع المختلط الذي كان ينتج لتلفزيونات والثلاجات والمكيفات والطباخات والكثير غيرها من المنتوجات والتي اختفت لاحقا من السوق المحلية بفضل سياسة الانفتاح الفاحش .
إن العراق حيث يعتمد على الموارد الطبيعية النفطية مصدرا للعملة الأجنبية وتمويل الإنفاق العام أظهر خلال الفترة الماضية وتحديدا بعد عام 2003 ترددا غريبا في تنوع القاعدة الإنتاجية والصادرات غير النفطية وتباطؤا شديدا في الاستثمار في الصناعات التحويلية، ولهذا يمكن القول إنه فشل في الوصول بتلك الصناعات إلى امتلاك المقومات الذاتية في النمو مما أدى إلى فشل تجربة التصنيع ومن ثم التوقف. وقد بينت التجربة أن فاعلية الحكومات المتعاقبة خلال هذه الفترة وضوابط تنظيم الحياة الاقتصادية والنزاهة كانت كلها عوامل مفقودة، كما أن مسعى الحكومة لتوفير 20 تريليونا عبر الرسوم والضرائب في المنافذ الحدودية قد لا تتحقق في ظل تنامي أنشطة الفساد التي تعشعش في هذه الأماكن.
إن تسلح الدولة بوجهة صناعية مستقبلية هادفة إلى بناء قطاع صناعي تحويلي متطور على المدى البعيد تكون إطارا لاختيار سياسة تصنيعية وطنية متينة تشكل قوة تنافسية متكاملة تقلل من نسبة الاعتماد على الموارد النفطية من خلال:
- أن تتجه الدولة في مجال تطوير الصناعة التحويلية إلى التخطيط لاستيراد أفضل أنواع التكنولوجيا المتاحة وفي ذات الوقت تضمين عقود الشراء التدريب الكامل للكادر الوطني على هذا النوع من التكنولوجيا القادر على التشغيل والصيانة والمشاركة الفعلية في نصب المعدات.
- حماية الوفرة المالية من محاولات الاستحواذ عليها من قبل الطبقات الطفيلية التي تنشط خارج قطاع الإنتاج والتي تحقق مكاسبها من دعم الجهاز البيروقراطي الفاسد.