سمعنا البعثيين يتحدثون فيما بينهم، من ان استاذاً جديداً سيدرسنا المواد العلمية للصف الثالث المتوسط في المتوسطة الشرقية في الكرادة الشرقية. كان ذلك في بداية النصف الثاني من العام الدراسي 1961/1962، قالوا إن اسمه عبد الجبار وهبي، وهو شيوعي قيادي، وسوف يستهزؤون به ويسخرون منه اثناء المحاضرات وخارج الصف. من هو عبد الجبار وهبي! لم نعلم بشخص بهذا الاسم. جاء زميلنا مناضل فاضل عباس المهداوي في اليوم الثاني بالخبر اليقين، وقال انه «أبو سعيد»! الكل يعرف أبو سعيد، وكان عمرنا آن ذاك ثلاث أو أربع عشرة سنة، إلا أننا كنا نقرأ الكتب والمجلات والصحف وخاصة صحيفة «أتحاد الشعب» وأول ما نقرأه فيها هو عمود «كلمة اليوم» في الصفحة الثامنة وهي آخر صفحة، الذي يحلل فيه الصحفي الساخر والذي يكتب مقاله على شكل «حدوته» يحاكي فيها مشكلة او معاناة او آفة اجتماعية او تقاليد بالية او نقدا سياسيا بدون مجاملة، بأسلوب سلس ولاذع وممتع في آن واحد وتحت اسم مستعار «أبو سعيد».
أُغلقتْ صحيفة «اتحاد الشعب» في آذار من عام 1960، أعقبها اعتقال رئيس التحرير عبد القادر اسماعيل البستاني واعتقال عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ثم إبعاده إلى مدينة الرمادي تحت الإقامة الجبريَّة. وبعد انتهاء محكوميته، نُسب إلى مدرستنا، المتوسطة الشرقية لتدريس العلوم لأنه اصلاً من الطلاب المتفوقين الذي حصل على بعثة للحصول على بكالوريوس علوم من الجامعة الامريكية في بيروت.
كُنت في ذلك العام الدراسي في أوج نشاطي السياسي، لذا كنت راسباً في ثلاث مواد علمية، وبالتالي سوف لن يسمح لي بدخول امتحان بكلوريا الثالث متوسط، إلا أن قدوم أبو سعيد الصحفي الذي كنا نقرأ عموده كل يوم، غير المقاييس كلها، فكيف لي أن أكون كسولاً واستاذي أبو سعيد! فمثلما هيأ البعثيون أنفسهم لاستفزاز الأستاذ عبد الجبار وهبي، تهيأنا أنا ومناضل وآخرون للوقوف بوجههم ولصد استفزازاتهم الوقحة.
وأخيراً جاء اليوم الأول لحضور الأستاذ عبد الجبار وهبي إلى الصف بعد انتظار مقلق. كان مشهداً لا يوصف، أستاذ في منتهى الهندام، أنيق دون مبالغة، لا تسمع أصوات خطواته لكياستها، قصير القامة نحيف البدن ذو رأس مُثلث كبير الحجم نسبياً، تملأ وجهه نظارات طبية مبالغ في حجمها. دخل الصف من وسطه وكأنه ملاكٌ ذو سطوة ساحرة، دخل في الدرس مباشرة وإذا بمادة العلوم الجافة تتحول بالطريقة التي يشرحها لنا كأنها حكاية، نستمع اليها بشغف وخشوع وكأننا في كنيسة نستمع فيها إلى تراتيل كاثوليكية باللغة اللاتينية في الفاتيكان، الصف كله آذان صاغية له.
لم يجرؤ أحد مهما كانت وقاحته أن يكسر حاجز الوقار الذي يملكه هذا الإنسان الذي بدا لنا في حينه أنه من غير كوكبنا. أُعتقل في العهد الملكي والعهد القاسمي، واعتقل بعد حركة 8 شباط 1963 الدموية، وعُذِّبَ وقُطِّعَ جسدُهُ في قصر النهاية وهو حيٌّ، وأعلن عن استشهاده مع رفاقه محمد صالح العبلي وجمال الحيدري في 19 تموز 1963.
نم قرير العين استاذي، فبعد واحد وستين عاماً على رحيلك مازلنا كما تركتنا، نناضل بلا هوادة، نُضطهدُ بلا ملل او كلل، وما زلنا مخلصين لأفكارنا، ومعذرة منك ومن كل الشهداء لأننا، لم نُحاسب مُعذبيكم ولم نشتك عليهم في المحاكم المحلية او المحافل الدولية، أو في دواوين العشائر. هُدر دمكم وسُلب مالكم تحت أعين أنظار أعيان القوم ورؤساء العشائر، ولكننا ما زلنا نغني للوطن أنشودة حب أبدي و ما زلنا نستذكركم بيننا، نحن بقايا زمن النضال المشرف.