في قلب بغداد القديمة، تتربع منطقة الكفاح، إحدى أعرق وأقدم مناطق العاصمة، والتي تحمل بين أزقتها حكايات من تاريخ المدينة العريق، يمثل جزءًا من تراث بغداد وروحها.
وتعتبر أزقة شارع الكفاح شرايين حيوية تربط بين مناطق الصدرية والشورجة، وتختصر الطرق نحو النهضة والسباع، ما يجعلها ممرا ضروريا لأصحاب المحال في الشورجة، المركز التجاري النابض للعراق.
ورغم هذا الثراء التاريخي والثقافي، يعاني سكان منطقة الكفاح من الإهمال وسوء الخدمات منذ سنوات طويلة. تلك الأزقة الشاهدة على حركة الحياة اليومية لأهل المنطقة، تظل شاهدة أيضًا على تقصير الجهات الحكومية في تقديم الخدمات الأساسية، ما يجعل سكانها يشعرون بأنهم منسيون وسط زحام المدينة.
ورغم أن الكفاح تحظى بتجمع شعبي كبير يحتضن قصصًا لا تنتهي من الصمود، إلا أن سكانه يواجهون تحديات يومية تجعل حياتهم أكثر صعوبة.
20 سنة من الاهمال
في منطقة الكفاح، حيث يعانق القديم الجديد في بغداد، يقف المختار رائد حسين علوان كرجل يعرف تفاصيلها بعمق. ورغم مرور عشرين عامًا من الإهمال والركود، إلا أن هناك شعورًا جديدًا بالأمل.
علوان، الذي ورث منصب المختار اباً عن جد يملك مكتبة صغيرة في شارع الكفاح، ويتحدث بصراحة عن التحديات التي واجهتها المنطقة طيلة هذه السنوات. فالإهمال الطويل، كما يقول، حوّل المنطقة إلى "مدينة منكوبة"، حيث انخفض مستوى الخدمات وازدادت المعاناة اليومية للسكان. وفي حديثه مع "طريق الشعب"، استعرض علوان التركيبة السكانية في المنطقة. فمع مرور السنوات، ازداد عدد سكانها واخذ يتنوع، ويشمل غير عراقية. هذه التحولات الديموغرافية أثرت على الحياة الاقتصادية، حيث ارتفعت تكاليف المعيشة وازداد غلاء الإيجارات، ما زاد من الضغوط على العوائل العراقية المقيمة هناك. وعند سؤاله عن الفئات السكانية الأكثر تواجدًا في الكفاح، يوضح علوان أن المنطقة تحتوي على تنوع كبير من المكونات والقوميات والديانات.
وأشار الى وجود حملات مستمرة لإخراج السوريين من المنطقة، الا انهم يعودون بعد حين.
وفيما يتعلق بالأسواق المحلية، يشير علوان إلى أن "المنطقة لا تزال تحتفظ بطابعها التجاري، حيث تتواجد أسواق الجملة التي توفر المواد الغذائية والمنزلية والتجميلية بأسعار أرخص مقارنة ببقية مناطق بغداد. "
يتحدث جاسم محمد، أحد سكان المنطقة، الذي يعيش بين ازقتها منذ 47 عامًا، بمرارة عن الإهمال الذي تعانيه الكفاح والمعاناة اليومية التي يواجهها المواطنون هناك.
فالكفاح، كما يصفها جاسم، كانت في السابق جميلة وحيوية، تجمع بين بساطة الحياة وروح التعاون بين الناس. لكنه يشير إلى أن هذا الجمال تلاشى تدريجيًا مع مرور الوقت بسبب الإهمال، وخاصة في ما يتعلق بالخدمات الأساسية، وبالرغم من ذلك يقول انها "لاتزال جميلة بالنسبة لي".
موضوع النظافة في الكفاح يبدو أكثر تعقيدًا.
جاسم يوضح لـ "طريق الشعب"ـ أن البلدية مستمرة في جهودها لتنظيف الشوارع، لكن هذه الجهود لا تكفي دائمًا لتلبية احتياجات المنطقة. حيث لا يلتزم أصحاب المحال التجارية بتنظيف أماكنهم. أما الكهرباء، فهي من أكبر التحديات التي يواجهها السكان، حيث يعانون من انقطاع متكرر للتيار الكهربائي، رغم حرص الأهالي على المطالبة بحلول لتحسين الوضع، واكد ان "أهالي المنطقة صابهم اليأس والملل من المطالبات المستمرة، لذا قرروا الزام الصمت". والماء، على الرغم من توفره في الصباح، إلا أن التوزيع غير المستقر يضيف ضغطًا آخر على الحياة اليومية للسكان، بحسب المتحدث.
وفيما يتعلق بإعادة تأهيل المنطقة، يشير جاسم إلى وجود العديد من البيوت القديمة والشناشيل البغدادية التقليدية التي لا تزال قائمة، لكنها تعاني من الإهمال والتدهور. أما عن المواقع الدينية، مثل مرقد "فرج الله"، فإنها تحظى باهتمام كاف مقارنة بالمواقع الأخرى، مما يعكس حالة من اللامبالاة تجاه التراث الثقافي للمنطقة.
وبرغم كل ذلك، تبقى الكفاح جزءًا مهمًا من بغداد، يحمل بين طياته تاريخًا عريقًا وحكايات لا تنسى عن حياة البغداديين.
جاسم، الذي أمضى حياته في هذه المنطقة، لا يزال يحن إلى أيامها الخوالي، لكنه أيضًا يعترف بضرورة التحرك لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وإعادة الحياة إلى شوارعها وأزقتها.
قصة شارع غازي
في حديث تاريخي، تناول الباحث ومقدم البرامج التاريخية ياسر العبيدي قصة شارع الملك غازي، المعروف حاليًا باسم شارع الكفاح، وما مر به من تطورات وتحديات، وأوضح العبيدي لـ "طريق الشعب"، أن "بغداد في تلك الحقبة كانت محاطة بسور بناه العباسيون في العهد العباسي، وكانت المدينة مقتصرة على المنطقة الواقعة داخل هذا السور، الذي ضم أبوابًا شهيرة مثل باب المعظم والباب الشرقي. الشوارع آنذاك كانت ضيّقة وغير معبدة، ومعظمها ترابية ومحصورة بين البساتين التي كانت تحيط بالمدينة.
خلال نهاية الحكم العثماني، قرر العثمانيون فتح شارع لأغراض عسكرية أطلقوا عليه اسم "شارع الرشيد"، والذي كان يُعرف سابقًا بـ"شارع خليل باشا"، نسبةً إلى القائد العسكري العثماني الذي شارك في معركة حصار الكوت ضد البريطانيين.
ويضيف، "ثم جاء الحكم الملكي وحينها افتتح شارع الملك غازي في عام 1934، الذي يمتد من منطقة الفضل قرب كراج نقل الركاب، مرورًا بساحة زبيدة، ثم ساحة الفردوس، وصولًا إلى الباب الشرقي، حيث ينتهي قرب سينما غرناطة القديمة"، واستدرك قائلاً، إن "عملية إنشاء الشارع لم تكن سهلة، حيث واجهت الحكومة صعوبات في استملاك الأراضي والمباني من المواطنين، ما أدى إلى تشكيل شارع غير مستقيم في بعض المناطق، وظهور انحناءات وتعرجات فيه.".
قارن العبيدي بين شارع الملك غازي وشوارع أخرى في بغداد، مثل شارع الجمهورية وشارع الرشيد، حيث أشار إلى أن هذين الشارعين يتميزان بالاستقامة مقارنةً بشارع الكفاح. وأضاف، أن شارع الكفاح يمتد عبر مناطق حيوية في بغداد، منها الشيخ عبد القادر الكيلاني، الفضل، ساحة زبيدة، قنبر علي، حي أبو دوكة وسيفين إلى ساحة الفردوس. وبعد ثورة 14 تموز 1958، تغير اسم الشارع إلى "شارع الكفاح"، كما تغير اسم "ساحة الوصي" إلى "ساحة النهضة".
واختتم العبيدي حديثه بالإشارة إلى أن شارع الكفاح كان ولا يزال جزءًا حيويًا من نسيج بغداد العمراني، يمر عبر عدة مناطق تاريخية، ويربط بين أجزاء مهمة من المدينة.
في ذات السياق، يقول حسن محسن، المختص في التاريخ، أن "شارع الكفاح يعد أحد الشوارع الرئيسة والحيوية في جانب الرصافة. ويمتد الشارع من ساحة التحرير في قلب بغداد إلى منطقة باب الشيخ، ما يجعله محورا هاما للنشاطات التجارية والثقافية في المدينة".
وفي حديثه عن تاريخ الشارع، أشار محسن لـ "طريق الشعب"، إلى أن "شارع الكفاح كان يُعرف سابقاً باسم "شارع غازي"، نسبة إلى الملك غازي، ابن الملك فيصل الأول. وكان الشارع جزءاً من بغداد القديمة، حيث احتفظ بطابعه التاريخي عبر الأبنية والأسواق القديمة التي كانت تميزه".
من "غازي" الى "الكفاح"
وأضاف محسن أن الشارع لعب دوراً مهماً في الماضي، إذ كان يمثل جزءاً من الطريق القديم الذي يربط بين مناطق الرصافة والكرخ، ويمر عبر مناطق تاريخية مثل الفضل وباب الشيخ، اللتين كانتا تُعدان مراكز تجارية ودينية هامة. وأشار إلى أن اسم الشارع تغير إلى "شارع الكفاح" بعد ثورة 14 تموز 1958، التي أطاحت بالنظام الملكي وأعلنت قيام الجمهورية في العراق. وأكد أن الاسم الجديد يعكس روح النضال والكفاح ضد الاستعمار والملكية. وتابع محسن قائلاً إن شارع الكفاح كان ولا يزال مركزاً مهماً للأنشطة التجارية، حيث يضم أسواقاً ومحالا تجارية متنوعة. وقد اشتهر في فترة ما ببيع الكتب القديمة والمقتنيات النادرة، إضافة إلى الأنشطة الصناعية الصغيرة. كما لفت إلى أن الشارع يمتد بجانب العديد من المعالم الدينية والثقافية.
واختتم محسن تصريحه بالإشارة إلى أن الشارع شهد تحولات كبيرة في العقود الأخيرة نتيجة للحروب والعقوبات التي أثرت على بغداد. ورغم التغيرات التي طرأت على بعض المباني القديمة، إلا أن شارع الكفاح ما زال يحتفظ بأهمية خاصة في قلب بغداد، ويظل جزءاً من ذاكرتها الحية، حيث تتداخل فيه قصص التجارة، الدين، والسياسة.