خلال السنوات الأخيرة، تصاعدت وتيرة الاتجار بالأعضاء البشرية في العراق، على نحو يكشف بوضوح عن جانب خطير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية العاصفة في البلاد. إذ تستغل الشبكات الإجرامية ضعف الرقابة وانتشار الفقر في استدراج الضحايا، ما يهدد حياة الفئات الهشة ويعرضها لأبشع أشكال القهر والاستغلال.
وفي حين تسعى المؤسسات الصحية والأمنية لمكافحة هذه الجريمة، تبرز حاجة ملحة لتضافر الجهود المحلية والدولية من أجل وضع حد لها، وحماية العراقيين من استغلال ينتهك حقوقهم ويساومهم على إنسانيتهم.
أبرز الفئات المستهدفة في تجارة الأعضاء البشرية، الطبقات الفقيرة، لا سيما عديمو الدخل والعاطلون عن العمل من فئة الشباب، إضافة إلى الأطفال المشردين، والعمال الأجانب، خاصة مخالفو شروط الإقامة. إذ يتعرضون غالباً للخطف ثم إلى عمليات انتزاع لأعضائهم المطلوبة بعد قتلهم أو تخديرهم، وبالتالي بيع تلك الأعضاء عبر سماسرة يتعاملون مع هذه التجارة.
اختطاف عشرات الأطفال سنويا
في هذا الصدد، يذكر رئيس “منظمة مصير” لمكافحة الإتجار بالبشر، باسم جبر، أن “عام 2023 شهد اختطاف نحو 80 طفلاً في مختلف أنحاء العراق، نقل قسم منهم إلى بعض دول الجوار. حيث تتم عمليات انتزاع أعضائهم وبيعها”، مضيفا في حديث صحفي أنه “في العام 2022 تم اختطاف أكثر من 90 طفلاً. وسنويا تشهد البلاد العشرات من هذه الحالات”.
ويرى أنه “رغم الجهود الحكومية في مكافحة الظاهرة، إلا ان هناك حاجة لإجراءات أكثر فاعلية للقضاء عليها، خاصة أنها باتت تهدد الأمن المجتمعي”.
ويوضح جبر أن “الأعضاء الأكثر طلبًا في هذه التجارة، هي الكلى، إضافة إلى جزء من الكبد وأجزاء من الجهاز التناسلي الذكري”، لافتا إلى أن “الفقر والجهل سببان رئيسان لتفشي تلك الجرائم. حيث تستغل الشبكات الإجرامية الفقراء والبسطاء في تحقيق مصالحها”.
كما ينوّه إلى أن منظمته تمضي بخطى توعوية واسعة في معظم المحافظات، للتعريف بمخاطر تلك الظاهرة وكيفية التعامل معها والإبلاغ عنها.
آثار جسدية ونفسية قاسية
تترك تجارة الأعضاء البشرية تداعيات مؤلمة على ضحاياها، سواء كانوا قد باعوا أعضاءهم بسبب الحاجة المالية أم أُجبروا على التخلي عنها قسرا.
ويوضح اختصاصي الطب النفسي حسن الشماع، أن “هذه التداعيات تشمل جوانب جسدية ونفسية معقدة. فمن الناحية الجسدية يواجه الضحايا مضاعفات صحية ناتجة عن عمليات استئصال الأعضاء أو نقلها”، مبينا أن “نقص الأعضاء مثل إحدى الكليتين أو جزء من الكبد، يؤثر سلباً على قدرة الجسم على التخلص من السموم، ما يؤدي إلى زيادة احتمال الإصابة بأمراض مزمنة”.
أما من الناحية النفسية، فيذكر الشماع ان “الأشخاص الذين يبيعون أعضاء من أجسادهم، غالباً ما يعانون تغيرات مزاجية واكتئابية. فهم يتخلون عن أعضاء أساسية لا تعوض، ما قد يثير لديهم مشاعر الندم المستمر، خاصة إذا تعرضوا لاحقاً لأي أزمة صحية”.
ويتابع قائلا: “كما أنهم يفقدون ثقتهم بأنفسهم ويشعرون بالعار، إذا اكتشف المحيط الاجتماعي أمرهم”.
ويشير الشماع إلى ان “أولئك الذين يتعرضون لعمليات استئصال الأعضاء قسراً، سيتعرضون إلى صدمات نفسية مزمنة”.
عقوبات غير كافية
يذكر الخبير القانوني أمير الدعمي، أن قانون مكافحة الإتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012، يهدف إلى مكافحة هذه التجارة وحماية الضحايا، وضمان حقوقهم، إضافة إلى معاقبة المتاجرين وتقديم الحماية القانونية للمجتمع.
ويعرّف جريمة الإتجار بالبشر، بـ “تجنيد الأشخاص أو إيوائهم عبر التهديد أو الخطف أو الاحتيال، ثم استغلالهم سواء كأشخاص أم عبر استخدام أعضائهم الداخلية، في أعمال الإتجار”.
ويوضح في حديث صحفي أنه “حسب المواد القانونية 421، 422، 423، تصل عقوبة اختطاف الأشخاص إلى السجن مدى الحياة، فيما تصل عقوبة الإتجار بالبشر بشكلها العام، وفق المادة 399، إلى السجن من 15 سنة إلى المؤبد”.
ويتابع قوله أن “عقوبة الإتجار بالأعضاء البشرية، وفقاً للمادة 7 من القانون، تشمل السجن لمدة لا تتجاوز 10 سنوات، مع غرامة مالية لا تقل عن 10 ملايين دينار عراقي ولا تزيد على 25 مليون دينار”.
ومع ذلك، يرى الدعمي أن تلك العقوبات غير كافية، مؤكدا “الحاجة إلى تعديلات قانونية، خاصة مع تفشي هذه الجرائم”.
ويدعو في الوقت نفسه إلى “تشديد العقوبات، بما في ذلك فرض عقوبة الإعدام ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، لتكون العقوبة رادعة في مواجهة تلك الجريمة”، لافتا إلى ان “المتورطين بهذه الجرائم هم عصابات متنفذة ترتبط بشبكات دولية معقدة، ما يخلق تحديات كبيرة أمام القضاء على هذه الظاهرة بشكل نهائي”.
تحرّك حكومي
تنامي تجارة الأعضاء البشرية دفع إلى تحرك حكومي فعّال لمكافحتها. فقد تم تشكيل لجنة عليا في هذا الشأن بموجب المادة 2 من قانون مكافحة الإتجار بالبشر، برئاسة وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، وعضوية 16 وزارة وجهة حكومية أخرى ساندة.
وتبذل اللجنة جهوداً مكثفة في عدة مسارات، أبرزها ملاحقة المتاجرين، وحماية الضحايا ودعمهم صحياً ونفسياً، إلى جانب إطلاق حملات توعوية لتثقيف المجتمع بشأن خطورة هذه الظاهرة وضرورة الإبلاغ عنها.
يأتي ذلك إلى جانب جهود أمنية كبيرة، وتحديداً من وكالة الاستخبارات الاتحادية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية، للحد من انتشار هذه التجارة.
وفي هذا المنحى، يقول مدير عام مديرية مكافحة الاتجار بالبشر، العميد مصطفى الياسري، ان اللجنة أصدرت تعليمات لتسهيل تنفيذ نصوص القانون، بما في ذلك فتح دور إيواء للنساء والرجال والأطفال المتضررين.
وينبه في حديث صحفي إلى أن مفارز المديرية تنفذ عمليات استباقية “حيث تم تحرير 345 شخصاً قبيل وقوع جريمة الاتجار بهم، خلال عامي 2023 و2024، كما قدمت الحكومة مساعدات لنحو 80 شخصاً وقعوا ضحايا لهذه التجارة في الفترة نفسها”.
ويشير الياسري إلى أن “هذه التجارة، التي كانت في البداية تعتمد على وسطاء من سماسرة يرتبطون بشبكات دولية، تحولت منذ سنة 2020 إلى تجارة إلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي”.
ونجحت المديرية بالتعاون مع هيئة الإعلام والاتصالات في إغلاق نحو 80 موقعاً خارج العراق على منصات (فيس بوك وتويتر وتليغرام) تروج لتجارة الأعضاء البشرية تحت مسمى “التبرع”، إضافة إلى مداهمة أكثر من 25 موقعاً داخل البلاد – حسب الياسري، الذي يؤكد أن “أبرز التحديات التي تواجه مكافحة هذه التجارة، هي أن تلك الشبكات تعمل عبر الحدود الدولية، ما يعقد مهمة القضاء عليها. كما أن هذه الجريمة غامضة وتتطلب جهوداً دقيقة لاكتشافها”.
وينوّه إلى أن “التنسيق مع الإنتربول والمنظمات الدولية، ساعد في زيادة اكتشاف هذه الجرائم، حيث تمكنت الأجهزة الاستخبارية أخيرا من تفكيك 8 شبكات دولية تعمل في العراق”، مشيرا إلى ان “وزارة الداخلية شددت من إجراءات عمليات التبرع بالأعضاء. حيث يتم التأكد من شرعية هذه العمليات بالتعاون مع وزارة الصحة، ولا تُجرى أي عملية تبرع إلا بعد موافقة اللجنة المتخصصة، كذلك بعد موافقة ذوي المتبرع”.
ويفيد الياسري بأنه “في العام الجاري تم إلقاء القبض على 162 متهماً بتجارة الأعضاء البشرية. كما سجلت المديرية 25 ضحية. أما في العام الماضي، فقد تم اعتقال 123 متهماً وتسجيل 20 ضحية، بينما شهد عام 2022 ضبط 53 متهماً، وفي العام 2021 جرى اعتقال 46 متهماً دون تسجيل أي ضحايا”.
ويؤكد أن “وزارة الداخلية تولي اهتماماً كبيراً بمكافحة تجارة الأعضاء البشرية. حيث جرى تأسيس بنية تحتية حديثة للمديرية، إضافة إلى قسم خاص بالتقنيات لمتابعة الشبكات الإجرامية والمنصات التي تروج لهذه التجارة”، مزيدا إلى قوله “كذلك وُضعت استراتيجية وطنية في هذا الشأن، تمتد من عام 2023 إلى 2026، وتتضمن خططاً سنوية بدعم من الوزارات المعنية ومجلس القضاء الأعلى، الذي أصدر قراراً بعدم محاسبة الضحايا بأي حال من الأحوال”.