باتت مشكلة التلوث البيئي أحد أبرز التحديات التي تواجه العراق منذ عقود، والتي يُرجع اختصاصيون أسبابها إلى الغاز المنبعث من السيارات ومحطات تكرير النفط، فضلاً عن محطات إنتاج الطاقة الكهربائية، والعواصف الترابية والآثار الملوثة بالإشعاعات النووية ومخلفات الحروب، ومياه الصرف الصحي والنفايات الصحية والفضلات الصناعية ومخلفات ومواد القطاع الزراعي والفضلات السائلة والصلبة البلدية المختلفة، إلى جانب مصادر أخرى منتشرة بصورة عشوائية داخل المناطق السكنية كالورش والصناعات الحرفية والأفران ومولدات الكهرباء الفردية والجماعية والنفايات المنزلية.
ومنذ شهور تتعالى أصوات البغداديين عبر وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، مطالبة بإيجاد حل لمشكلة تلوّث هواء بغداد، الذي يأتي رماديا حاملا رائحة كبريتية واضحة، في الوقت الذي تفيد فيه تقارير بيئية محلية ودولية بأن العاصمة العراقية إحدى أكثر المدن تلوثا في الهواء في العالم، إضافة إلى نسب التلوث العالية في المياه والتربة.
ويمتد تأثير التلوث إلى المواطنين، الذين يواجهون انعكاساته الخطيرة على صحتهم. إذ تعاني أعداد كبيرة منهم أمراضا مرتبطة بالجهاز التنفسي مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية وأمراض الرئة المزمنة.
وتحدد إحصاءات معدلات جزيئات الغبار المجهري المعروف بـ"بي ام 2.5" في هواء العراق، بأنها تتجاوز بكثير المعايير التي توصي بها منظمة الصحة العالمية.
ومنذ أيلول العام الفائت، شعر سكان بغداد برائحة كبريت واضحة في الهواء، لم يجر تحديد مصدرها. إذ يرى متابعون أنها صادرة عن عمليات تكرير النفط في مصفى الدورة وعن محطتي الكهرباء "الرشيد" و"القدس"، ويرى آخرون أنها ناتجة عن حرق المطامر الصحية، وغيرهم يرون أنها صادرة عن أنشطة صناعية متمثلة في صهر المعادن وحرق الوقود الثقيل في معامل الاسفلت والطابوق. وبالرغم من إعلان وزارة البيئة أن إدارتها العليا وفرقها الرقابية تعمل ميدانيا على مدار الساعة على متابعة مصادر تلوث الهواء في بغداد واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين، إلا أن المشكلة لم تنته، إذ لا تزال رائحة الكبريت تظهر بين فترة وأخرى.
أمراض خطرة تتصاعد
يؤكد الطبيب الاختصاصي في الأمراض الصدرية فؤاد العيساوي، ارتفاع الإصابات بأمراض خطرة في بغداد ومختلف مدن البلاد، بسبب تلوّث الهواء، مشيرا إلى أن أبرز تلك الأمراض ضيق التنفس والربو وحساسية المجاري التنفسية.
وتذكر وكالات أنباء أن أرقاما أعلنتها وزارة الصحة تفيد بأن عدد المصابين بالأمراض التنفسية الحادة، الذين راجعوا المستشفيات والمراكز الصحية خلال الشهور الأخيرة، وصل إلى ضعفي معدل عام 2022. وفي تشرين الثاني الماضي توجه أكثر من 10 آلاف مواطن، خلال يوم واحد، إلى مستشفيات ومراكز صحية في بغداد نتيجة معاناتهم صعوباتٍ في التنفس وأزمات ربو حادة مرتبطة بتلوث الهواء.
ورغم أنه لا توجد إحصاءات حول عدد المصابين بأورام سرطانية جراء استنشاق الهواء الملوث في العراق، يلفت الطبيب العيساوي إلى أن عدد المصابين بهذه الأمراض يرتفع نتيجة التعرض الطويل للهواء الملوث.
وتفيد تقارير رسمية بأنه جرى تسجيل 43 ألف إصابة بالسرطان في عموم العراق عام 2023، مقابل أكثر من 39 ألف إصابة في العام السابق – نقلا عن وكالات أنباء.
تدمير البيئة
لا تتوقف تداعيات التلوث عند الصحة العامة فقط. إذ انها بداية تطاول البيئة بشكل واسع، وتتسبب في تدميرها. وأدت الأنشطة الصناعية العشوائية وعمليات تجريف الأراضي الزراعية، إلى تدهور التنوع البيولوجي وفقدان الموائل الطبيعية لكثير من الكائنات الحية – حسب ما يذكر الخبير الزراعي المهندس حسن المنصوري في حديث صحفي.
ويفاقم تلوث البيئة التأثيرات السلبية على القطاع الزراعي المحلي. وفي هذا الصدد يوضح المنصوري أن تدهور جودة التربة والمياه نتيجة للتلوث الصناعي والإهمال البيئي يعرضان المحاصيل الزراعية للخطر، مؤكدا أن استمرار تلوث الهواء بالمواد الكيميائية أحد أسباب تردي الإنتاج الزراعي الذي يعاني أساساً التغيّرات المناخية.
من أكثر المدن تلوّثا في العالم
وكانت بغداد قد تصدرت قائمة المدن الأكثر تلوثاً في العالم، وفقاً لأحدث مؤشر لجودة الهواء، ما يضع العراق في دائرة الضوء باعتباره أحد أكثر البلدان تأثراً بمشكلة تلوث الجو.
وبحسب التقارير، يسجل التلوث في بغداد معدلات قياسية تفوق المعايير العالمية الآمنة، في وقت تؤكد فيه السلطات أنها تواصل مساعيها لإيجاد حلول للمشكلة، وتتحدث عن أنها أغلقت منذ تشرين الأول الماضي 170 منشأة صناعية وزراعية سبّبت تلوثاً كبيراً للهواء. لكن اختصاصيين يصفون هذه الإجراءات بأنها "غير كافية في حال عدم وضع سياسات طويلة الأمد تقلل الانبعاثات السامة وتحسّن إدارة النفايات وتعزز استخدام الطاقة النظيفة".
من جانبه، يتحدث عضو "مرصد العراق الأخضر" الخبير البيئي عمر عبد اللطيف، عن تصدّر بغداد مدن العالم على صعيد المؤشر الأسوأ لجودة الهواء. ويقول: "ليست بغداد الأعلى دائماً في مؤشر تلوث الهواء، لكنها تحتضن غالبية أسباب وجود الظاهرة وتفاقمها، وأهمها انتشار المباني الكونكريتية داخلها وفي محيطها، واستخدام محروقات النفط الأسود بدلاً من تلك التي تؤثر بشكل قليل على الجو"، مبينا أنه "منذ أكثر من شهر تنتشر روائح تشبه الكبريت في العاصمة. وهذه الروائح خطرة جداً لأنها صادرة عن تركيبات كيميائية ملوثة تضر بصحة الإنسان، وقد تسبب سرطانات".
ويتابع قائلا أن "من بين الأسباب الأخرى التي تفاقم أزمة التلوث، غياب المساحات الخضراء، خصوصاً مع تحويل مساحات زراعية وفضاءات داخل بغداد ومحيطها إلى مدن لتقليص أزمة السكن. علماً أن عدد سكان بغداد قد يصل إلى 10 ملايين نسمة خلال العامين المقبلين، وهو أكثر من 9 ملايين حالياً"، مضيفا قوله: "كذلك من الأسباب الأخرى عوادم السيارات ومولدات الكهرباء التي تنتشر داخل الأحياء السكنية. يضاف إلى ذلك معامل صناعة الطابوق شرقي وجنوبي العاصمة، والتي تنفث عوادمها مواد سامة، ونحن نشيد بإغلاق الجهات المسؤولة أكثر من 100 من هذه المعامل".
القادم صعب!
ترددت أخيراً أخبار تفيد بأن تلوث هواء بغداد سببه مصفاة الدورة التي تعتبر من أكبر مصافي النفط في البلاد. لكن الخبير البيئي عبد اللطيف ينفي علاقة المصفاة بالتلوث "بدليل أن تأثيرات هذا التلوث لا تنحصر داخل العاصمة، إنما تمتد إلى مدن بعيدة".
ويرى أن "السنوات المقبلة ستكون صعبة على العراق في حال لم تتخذ الجهات المسؤولة حلولاً مناسبة. ونحن نستغرب بُطء الإجراءات الحكومية، رغم أن العراق من بين أكثر خمس دول هشاشة في موضوع المناخ".
وكان "مؤتمر كوب 29" للمناخ، الذي عُقد في تشرين الثاني الماضي في العاصمة الأذربيجانية باكو، قد خصص 30 مليون دولار للعراق لمعالجة قضايا المناخ.