على مقربة من مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان وسط مدينة الأعظمية، تقف محلة الحارة شاهدةً على تاريخ بغدادي عريق، وذاكرة أجيال متعددة. إلا انها اليوم تواجه كارثة الإزالة باسم التطوير العمراني والاستثمار. فأزقتها الضيقة، ومنازلها التراثية وشناشيلها وذكريات سكانها العتيقة، كل ذلك على وشك أن يتحول إلى مجرد أطلال ومساحات جرداء، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حلَّ بالكثير من المعالم البغدادية.
وتبرز محلة الحارة كضحية جديدة للإهمال وغياب التخطيط، وسط صراع بين من يتمسكون بتراثهم ومن يسعون لمحو التاريخ مقابل التحديث. فمنذ العام 2014 بدأ الوقف السني بشراء منازل الكثيرين من سكان المحلة مقابل مبالغ مغرية، بهدف استثمار مساحاتها وضمها إلى مرقد أبي حنيفة. وفي تموز الماضي أطلق الديوان إنذاراً لسكان المحلة بضرورة إخلاء منازلهم خلال 45 يوماً، للبدء بأعمال التوسعة.
وتشكل محلة الحارة أحد أبرز معالم التراث البغدادي. إذ تأسست عام 1831، وشهدت العديد من الأحداث والمتغيرات، وصمدت أمام الزمن. وحاليا لم يتبق من المحلى سوى بعض البيوتات القديمة المتهالكة. إذ تم هدم العديد من المنازل، ما حوّل المنطقة إلى مساحات جرداء.
4 ملايين دينار للمتر المربع
مؤيد الصالح، أحد سكان الأعظمية الأصليين، يذكر في حديث صحفي ان "عدد بيوت محلة الحارة كان يزيد على 160 بيتاً. وقد عرض الوقف السني مبالغ مجزية للسكان مقابل ترك منازلهم. إذ دفع 4 ملايين دينار للمتر المربع الواحد خلال العام 2014، حين كان سعر المتر في المنطقة لا يتجاوز مليوناً ونصف المليون دينار".
ويضيف قوله أن "معظم سكان المحلة باعوا منازلهم للوقف، لكن عدداً قليلاً منهم تمسك بالبيوت ورفض بيعها".
بين المرقد والمقبرة الملكية
وتقع محلة الحارة بين مرقد أبي حنيفة النعمان والمقبرة الملكية. وتضم شوارع ارتبطت بأسماء شخصيات شعبية، مثل شارع سعدة، نسبةً إلى امرأة كانت تبيع الخبز فيه. ولا يتجاوز طول الشارع 400 متر، ويقسم المقبرة إلى قسمين، أحدهما دُفن فيه علماء وشخصيات بارزة، مثل الشيخ أبو بكر الشبلي (أحد علماء التصوف)، العالم أمجد الزهاوي، الشيخ مكي الواعظ، الشيخ قاسم القيسي، العالم عبد العزيز الخياط، والشاعرين ساطع الحصري ومعروف الرصافي.
كما تضم المحلة حماماً تراثياً يعود بناؤه إلى عهد السلطان سليمان القانوني، الذي دخل بغداد خلال العام 1534.
قرار الإخلاء والإنذار النهائي
في تموز الماضي أطلق ديوان الوقف السني إنذاراً لسكان محلة الحارة بضرورة إخلاء منازلهم خلال 45 يوماً، للبدء بأعمال توسعة مرقد الإمام أبي حنيفة. حيث جرى هدم العديد من الدور ذات الشناشيل القديمة، وبقيت أخرى في انتظار الهدم.
من جانبها، تقول رئيسة "فريق أنقياء العراق" للحفاظ على الآثار والتراث، أسماء الشالجي، أن "مناطق تراثية عديدة في بغداد اختفت تماماً بسبب عمليات الاستثمار التي لا تأخذ بعين الاعتبار الإطار التراثي لهذه المناطق".
وتشير في حديث صحفي إلى أن "بيوت محلة الحارة قديمة ومتهالكة، وكان من الأفضل ترميمها وتأهيلها بدلاً من إزالتها"، مبينةً أن "زوال المحلة يُضاف إلى مئات الآثار التي اختفت من مناطق بغداد الأخرى، بسبب الإهمال وعدم الاهتمام بالتراث البغدادي، الذي يشكل جزءاً من الذاكرة الحية للمدينة".
متمسكون بمنازلهم ويخشون انهيارها
لا يزال بعض سكان المحلة متمسكين بمنازلهم، رغم الهدم المستمر للبيوت المجاورة لها، ما يجعلها عرضة للانهيار.
يقول المواطن علي الذيب، أحد سكان المحلة، أنه "لم أبع منزلي رغم التعويضات السخية، لأنه إرث أجدادي، ويحمل ذكريات حياة غنية بالمعاني، رغم بساطتها".
لكنه يؤكد في الوقت نفسه، أن منزله يهتز باستمرار بسبب حركة الجرافات والرافعات. وقد يضطر إلى مغادرته خشية سقوطه على عائلته، لافتا إلى ان أسعار العقارات ارتفعت كثيراً منذ العام 2014، ما يجعل التعويض الحالي غير كافٍ لشراء بيت جديد.
لا مبرر قانونيا
إلى ذلك، يرى المهندس المعماري محمد قاسم أن "غياب التخطيط العمراني يؤدي إلى إزالة مناطق تراثية دون مبرر قانوني واضح".
ويقول في حديث صحفي أن "الجهات الرسمية تحكم سيطرتها على بيوت وأحياء تراثية واسعة بعد دفع تعويضات مالية لأصحابها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار القيمة التاريخية والفلكلورية لتلك الأحياء"، مضيفا قوله أن "توسعة المراقد أمر مشروع لتعزيز السياحة الدينية وإظهار مقامات الأولياء بالمظهر اللائق، لكن يجب أن يتم ذلك بطرق مدروسة تحافظ على الشواهد التاريخية".
ويقترح قاسم أن تعود ملكية محلة الحارة إلى أمانة بغداد، كما كان الحال سابقًا "لأنها الجهة التي تمتلك الصلاحية في مجال الهدم والتعويض والبناء"، لافتا إلى أن التوسع العمراني العشوائي في بغداد لا يحافظ على هوية المدينة وأصالتها، على عكس ما يحدث في العواصم العالمية مثل لندن. حيث يتم التوسع العمراني وفق خطط تحافظ على التراث.
وينوّه إلى ان "مقترحات عديدة قُدمت للجهات المعنية من أجل الحفاظ على الهوية التاريخية للعاصمة أثناء توسعة المراقد أو إعادة تأهيل المناطق التراثية، لكن لم يؤخذ بها".