اخر الاخبار

كانت حصيلة سياسة البريطانيين أن استولى شيوخ العشائر الكبار والساسة الذين يؤلفون الأقلية الحاكمة وبعض أثرياء المدن (وسادتها) على معظم الأراضي الزراعية، حتى بات ٢ في المائة فقط ممن يحوزون الأرض عام ١٩٥٨ حيث يضعون ايديهم على ثلثي الأرض الزراعية في البلاد، وهو أمر ربما لم يشهدهُ بلد آخر إطلاقاً.

وبواسطة قوانين التسوية التي صدرت من الاحتلال الإنگليزي للعراق، وبتوجيه منه قام الحكم الملكي، ولغرض تكريس التصرف وإضفاء الصفة القانونية عليه بتشريع ما يُعرف بقانون حق اللزمة وتسوية الأراضي وغيرها، كالحقوق الممنوحة في الأراضي الأميرية الصرفة التي كانت تستند على أُسس العرف والعادة:

  • والحصيلة أصبحت ـ بتعسف أحكام هذه القوانين ـ أراضي العراق الشاسعة، يملك 18 في المائة منها نحو ٩٠ ملاكاً والباقي مشترك او موزع بين خمسة ملايين وهم سكان العراق آنذاك وبيت المال.
  • اصبح لبعض الإقطاعيين أراضٍ تعادل مساحتها أراضي لكسمبورغ او لبنان، بل لبعض هؤلاء من الأراضي الغنية أكثر من هاتين الدولتين الصغيرين. ولا يستغلون الأرض كلها، في حين إنهم يسعون إلى التوسع ووضع اليد على أراض أُخرى.
  • إن الأراضي كانت مشتركة لأفراد العشيرة (الديّرة) ويسود مبدأ الملكية الجماعية، لكن بعد ان جاءت قوانين التسوية تم تسجيلها جميعاً بإسم شيوخ العشائر “المتعاونين” مع الحكومة وسلطات الاحتلال الإنگليز، وتركت الشقاء والجوع لأفراد العشيرة، بينما كانت (الديرة) مظهرا من مظاهر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر.

منذ البدء شخّص الحزب الشيوعي العراقي الأوضاع والعوامل التي يجري في إطارها إفقار الفلاحين واستغلالهم في العمارة والناصرية والبصرة وغيرها.

فركز على الإستفادة من المعلمين والموظفين الصحيين ورجال الدين المتنورين، الذين يزورون القرى في مواسم معينة، والعلاقات التي يقيمها الفلاحون مع من يتعامل معهم في المدينة، وبفعل هذا التوجه جرى تكوين جمعيات “أصدقاء الفلاح”، وأصبح للحزب نفوذ في بعض مناطق ال إزيرج والبو محمد في العمارة وفي أبي الخصيب في البصرة، وحول بهرز في ديالى، وفي قرى شهرزور في السليمانية وفي قاضي خانه (قازي خانه) في سهل أربيل.

شكل جديد من النضال

منتصف الأربعينات، دافع الايزيديون شمال سنجار وعشيرة البو متيوت جنوب سنجار حتى تلعفر، ووقفوا بوجه شيوخ شمر الذين حاولوا التجاوز على أرضهم.

في الجنوب شكلت حركة آل الفرطوس عام ١٩٤٩، وهم من العشائر المستضعفة في لواء العمارة، حلقة الانتقال من النزاعات العشائرية التي سادت المرحلة السابقة إلى الشكل الجديد من النضال في الريف ببعده الطبقي.

 وعادوا للتحرك عام ١٩٥٠ لكن الشرطة قمعوهم ورحلوهم من العمارة إلى لواء المنتفك. ومنذ ذلك التاريخ صارت النضالات الفلاحية تتجه نحو إقطاعيي العشيرة ذاتها.

في عقد الخمسينات ازدادت عمليات نهب الأراضي الزراعية وتعمق إفقار الفلاحين.

 وتميزت هذه الفترة بـ:

  • إصدار التشريعات الحكومية التي تصب جميعها في تسهيل عملية نهب الأراضي الأميرية (ارض الدولة) والتي بدأت في الثلاثينات. إذ مُنحت باللزمة للملاكين او تفويضها بالطابو لهم (مفوضة بالطابو) وتمكينهم من وضع اليد على مقاطعات شاسعة باسم تشجيع إعمار الأراضي وتوطين القبائل الرحل.
  • تعاظم استخدام المكائن الزراعية.
  • تلاقح المصالح بين الأقلية الحاكمة وملاكي الأراضي، حيث القوانين والقوى الأمنية في خدمة ملاكي الأراضي.

وكان الملاكون يؤلفون الأغلبية الثابتة في مجلس النواب، وهي طوع بنان الأقلية الحاكمة وتوجهاتها لاتخاذ هذا القرار او ذاك.

حراك فلاحي

- قبل الوثبة عام ١٩٤٨، دار نزاع في ناحية (عربت) بين الفلاحين والشيخ لطيف الحفيد، وكانت حصيلته لصالح الفلاحين.

- عام ١٩٥٠ نشب صراع بين فلاحي قريتي باني خيلاني و(ده ره دوين) والملا حسين فهمي الجاف.. انتشر الخبر بسرعة في عموم القرى المجاورة، وتحرك فلاحو قريتي هورين وشيخان.

- في 5/ 11/ 1952 تحرك فلاحو آل إزيرج في العمارة علماً ان أراضي العمارة اميرية صرفة.

وفي ربيع عام ١٩٥٥ تحرك منهم عشرون ألف فلاح ضد الملاكين “الإقطاعيين” عائلة شواي الفهد الذي يملك مئات آلاف الدونمات. وكذلك ضد سلمان المنشد الذي يملك ايضاً مئات آلاف الدونمات، وهم زعماء قبيلة آل إزيرج.

في هذه الفعاليات تصدر الفلاحون الشيوعيون حركة الإحتجاج ضد مصادرة ارض عشيرتهم المشاعية، وبينهم فعل ضمد وخلف الجمّالي وسالم سريح وعبد الكريم كرم وصدام منحوش وصاحب ملا لازم وصاحب الفزع وحمود الفيّاض.

علماً ان الحكومة اصدرت قانون رقم ٤٢ لسنة ١٩٥٢، الذي منحت بموجبه أراضي لواء العمارة باللزمة مناصفة بين الملتزمين الأولين والملتزمين الثانويين.

بدا واضحاً منذ منتصف الخمسينات أن الحركة الفلاحية بدأت تتخذ وضعاً جديداً افضل، وكان ميدانها هذه المرة هو الفرات الاوسط الذي تنتشر فيه الملكيات الصغيرة والمتوسطة إلى جانب الملكيات الواسعة لشيوخ القبائل والسادة، ومناطق الفرات هذه معروفة بتقاليدها الثورية العريقة.

فكانت انتفاضة الشامية ١٩٥٤ التي حققت انتصارا في فرض مطلب قسمة النصيفة على نطاق العراق بمرسوم ملكي والنضال من أجل تطبيقه امتد إلى عام ١٩٥٧ و١٩٥٨ الذي تزامن مع قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ وإحباط تحرك الفرقة الأولى ضد الثورة من قبل فلاحي ريف الديوانية البواسل. يتضح مما ذكر وغيره أن الحركات الفلاحية في الخمسينات قد اكتسبت سماتها الخاصة “كحركة طبقية يحفزها تطلع الفلاحين الى الأرض، وإنها لم تعد حركات موضعية تدفع إليها عوامل عرضية طارئة”، وإنما راحت تتوالى ويؤثر بعضها في البعض، مع تنامي الوعي الطبقي الذي لعب الحزب الشيوعي دوراً ملحوظاً في نشره بينهم، حيث أصدر جريدة مركزية تعنى بشؤون الفلاحين ومشاكل الريف عامة، تحمل اسم (نضال الفلاح) وقد ظلت تصدر حتى عام ١٩٥٧.

وقد وزع من العدد الأول ألف نسخة والثاني ثلاثة آلاف نسخة حتى استقرت من بعد عند خمسة آلاف نسخة، وهو رقم ضخم إذا أخذنا في الحسبان تفشي الأمية آنذاك.

إن هذه الحركات الفلاحية الواسعة والعنيدة أظهرت العزلة الخانقة التي انتهى إليها المالكون والإقطاعيون في الريف، وكشفت عن طفيلية هذه الفئات ودورها المعرقل لتقدم البلاد سياسياً واقتصاديا واجتماعيا.