في ظل التحديات الاقتصادية والمعيشية المتزايدة، لا يزال العراق يواجه أزمة بطالة متفاقمة تُلقي بظلالها على المجتمع بشرائحه كافة. ورغم الوعود الحكومية المتكررة بتحسين الوضع الاقتصادي وتوفير فرص عمل جديدة، يقول الواقع ان الحكومة عاجزة عن معالجة الازمة، وما تطرحه من حلول غير مجدٍ.
وفي خضم ذلك استمرت ظاهرة الاغراق الوظيفي والتعيينات العشوائية لتحصيل مكاسب سياسية وفئوية وانتخابية، بينما اكد اختصاصيون ان الحكومة الحالية ومن سبقتها، فشلت بشكل متعمد، في تفعيل القطاع الخاص كحل مستدام لأزمة البطالة، نتيجة السياسات الاقتصادية العاجزة عن خلق بيئة مناسبة لجذب الاستثمارات وتوفير فرص العمل.
هذا وكانت إحصائية أجرتها شركة statista الالمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين في العالم، قد كشفت عن ارتفاع معدلات البطالة في العراق خلال العام الماضي 2023.
وأظهر جدول نشرته الشركة أخيرا، ان معدل البطالة في العراق ارتفع قليلا بمقدار 0.2 نقطة وبنسبة 3.31 في المائة خلال عام 2023 مقارنة بالعام الذي سبقه. وفي المجموع بلغ معدل البطالة 15.56 في المائة عام 2023.
ويشير معدل البطالة إلى نسبة السكان النشطين اقتصاديا والعاطلين حاليا عن العمل ويبحثون عنه، ولا يشمل الأشخاص غير النشطين اقتصاديًا مثل العاطلين عن العمل لفترة طويلة أو المتقاعدين أو الأطفال.
ويُظهر جدول الشركة ان معدل البطالة في العراق بدأ بالارتفاع في عام 2018 بنسبة 13.02 في المائة، بعد أن كان يبلغ في عام 2004 ما نسبته 8.71 في المائة.
حلول عقيمة
في هذا الموضوع، قال الاختصاصي في الشأن الاقتصادي د. كوفند شيرواني، ان “التعيينات في القطاع الحكومي التي وصلت الى رقم كبير جداً، نحو 700 إلى800 الف درجة وظيفية وتثبيت الكثير من العقود، لن تحل مشكلة البطالة التي وصلت إلى 20 و23 في المائة في بعض المحافظات. والمفارقة ان هذه النسبة العالية نجدها في محافظات غنية بالنفط”!
وتابع في حديثه لـ “طريق الشعب” قائلا ان “الحكومة كان يفترض بها ان تبحث عن حلول اخرى لتشغيل الشباب وتمكينهم وتشجيع القطاع الخاص على الاستفادة من العمالة المحلية، عوضاً عن استقدام عمالات آسيوية رخيصة في الكثير من القطاعات”.
ونوّه شيرواني الى ان “هذه التعيينات الكبيرة غير منسجمة مع الموازنة التي وصل العجز فيها الى 63 تريليون دينار. وكان هناك قرار بإيقاف التعيينات للسنوات الثلاثة 23 و24 و25، لعدم وجود تخصيصات، أو بسبب وجود عجز مستمر لا يقل عن 50 مليار او بحدود 63 تريليون دينار”.
واكد ان “اطلاق التعيينات بهذا الشكل يتنافى مع الاسس المالية والاقتصادية والارقام الموجودة في قانون الموازنة التي اقرت جداولها أخيرا”، مشدداً على “أهمية ان يتم التفكير في مشاريع جديدة استثمارية - ليس بالضرورة ان تكون في القطاع الحكومي - تستقطب الآلاف من العاطلين عن العمل، الذين غالبيتهم خريجو كليات ومعاهد ينتظرون فرص عمل”.
ترهل وظيفي
وواصل شيرواني حديثه قائلا ان “هناك ترهلا وظيفيا بسبب العدد الكبير من الموظفين، والذي يفوق الحاجة الفعلية. إضافة الى ذلك لدينا عدد كبير من مزدوجي الرواتب. وبحسب تقديرات اللجنة المالية البرلمانية، يوجد 250 الف فرد في الدولة يتقاضى اكثر من راتب، بما معناه 250 الف راتب كان يمكن منحها لأشخاص لا يتقاضون رواتب اساسا.. نحن نتحدث عن رواتب ثلاثية ورباعية، وهي هدر للمال وموضوع غير قانوني”!
وزاد قوله ان “الملاك الوظيفي مضاعف ثلاث مرات، وممكن أن يُنجز كل العمل الحكومي بثلث عدد المسجلين كموظفين في القطاعات الحكومية”، مشيرا إلى انه “من المؤسف ان هناك أعضاء في البرلمان وجهات حزبية يشجعون على إطلاق التعيينات الحكومية ويدفعون باتجاه ذلك رغبة في تحقيق مكاسب سياسية وحزبية وانتخابية وفئوية، من دون أن يعكس ذلك حاجة فعلية للدرجات الوظيفية. فنحن بحاجة الى ترشيد هذه الملاكات وتحديد الفائض منها والاستغناء عنه بأي شكل، وتوفير فرص عمل في القطاع الخاص، وألا يكون القطاع الحكومي هو الجهة الوحيدة التي توفر فرص عمل للشباب”.
اضغاث احلام
من جهته، رأى الخبير الاقتصادي همام الشماع ان “هذه التعيينات ذات طابع سياسي بضغط من القوى الماسكة بالسلطة، بهدف تحقيق مكاسب سياسية انتخابية. بمعنى ان الغرض منها ليس توفير فرص عمل للعاطلين او معالجة ازمة البطالة، إنما هو خدمة لغايات انتخابية”.
ونوّه في حديثه لـ “طريق الشعب”، الى ان “توقف الحكومة عن التعيين، كان بسبب عدم تحمّل الموازنة المزيد من التخصيصات للرواتب والاجور. فالموازنة بلغت 212 تريليون دينار بعجز كبير جدا يصل الى أكثر من 30 في المائة من الناتج المحلي. رغم عدم وجود احصاءات حديثة حول الناتج المحلي العراقي”.
وبيّن ان “هذه النسبة غير اعتيادية بالمقاسات العالمية. ولذلك توقفت الحكومة عن التعيين. ففقرة الرواتب تشكل حوالي 54 في المائة من النفقات الجارية خلال الشهور الأربعة الاولى من العام 2024، واذا اضفنا لها الرعاية الاجتماعية ستصل الى حوالي 70 في المائة”.
واردف الشماع بالقول ان “الحكومة لم تستطع الايفاء بهذا الالتزام رغم انها بحاجة الى الاستمرار في التعيين لأغراض سياسية، وذلك نتيجة العجز الضخم في الموازنة، والذي وصل الى 80 تريليون دينار، وليس لأنها لا تريد اعتماد هذا النهج”، لافتا إلى ان “هذه التعيينات لم ولن تقضي على البطالة، وهي لا تخدم السياسات الاقتصادية. فأعداد الخريجين والمؤهلين للتعيين تزداد سنوياً بحدود مليون شخص سواء خريج جامعة أم خريج ثانوية، وحتى على مستوى التعيين الابتدائي”.
ورأى ان “الاعتقاد بأن القضاء على البطالة يتم من خلال التعيينات، هو اضغاث احلام، ورغم كل ذلك فإن الحكومة اطلقت تعيينات لأغراض سياسية”. فيما دعا الى تقليل الانفاق الفائض “فخلال الشهور الأربعة الاولى، وبحسب بيانات وزارة المالية التي تقف عند نهاية أيار وتشمل الشهور الخمسة الأولى من العام، بلغ حجم المبالغ المخصصة للمنح والاعانات والمصروفات الاخرى 4.3 اعشار تريليون دينار، وعلى ما يبدو انها لم تذهب لأغراض تخدم المصلحة العامة”!
وانتهى الشماع إلى ان “القوى المتنفذة هي سبب مآسي العراق والعراقيين، ولا يمكن لها ان تكون جزءا من حل الأزمة”، مؤكداً انه “لو كانت هناك حكومات مخلصة وطنية ونزيهة، لوُظفت الاموال التي انفقت خلال 21 عاما، في تنمية الاقتصاد، وخلق مشاريع اقتصادية وتوفير وظائف عامة في القطاع الخاص، ولكان الحال افضل بكثير مما هو عليه اليوم”.