لم تشهد الحريات الصحافية في العراق أي تغيير إيجابي ملحوظ، برغم مرور أكثر من عقدين على التغيير السياسي في العراق، ووسط كلّ هذه التحديات التي تواجهها السلطة الرابعة، ما زالت هيئة الإعلام والاتصالات ـ التي يُفترض أن تكون جهة تنظيمية مستقلة ـ أداة بيد السلطات التنفيذية، لفرض قيود صارمة على وسائل الإعلام والصحفيين.
ويؤكد صحفيون ان هذه الهيئة ومنذ تأسيسها بعد عام 2003، لم تتمكن من إيجاد بيئة إعلامية حرة، بل أصبحت سيفًا مسلطًا على حرية التعبير، من خلال قرارات مجحفة، وفرض غرامات غير مبررة، وحجب مواقع صحافية، اضافة للتدخل في عمل المؤسسات الإعلامية بطرق تخدم مصالح سياسية ضيقة.
انحرفت عن هدفها الأساس
وأنهى رئيس الوزراء محمد السوداني تكليف علي المؤيد، وتكليف المهندس محمد عبد الله رئيساً لهيئة الإعلام والاتصالات، لمواصلة الإشراف على تنظيم قطاع الإعلام والاتصالات في العراق.
وكان أداء الهيئة وما زال يثير انتقادات واسعة من قبل الصحفيين والخبراء، الذين يؤكدون أنها انحرفت عن هدفها الأساس، وتحولت إلى مؤسسة تُمارس دورًا قمعيًا بدلاً من أن تكون ضامنًا لحرية الإعلام، إضافة لمبدأ المحاصصة السياسية الذي أضعف إدارتها، ولغياب المهنية في قراراتها، الأمر الذي انعكس سلبًا على المشهد الإعلامي برمته.
وفي هذا الصدد، قال رئيس تحرير صحيفة العالم الجديد الإلكترونية، منتظر ناصر انه "برغم التغييرات التي شهدتها الهيئة في الفترة الماضية، إلا أنها لم تشهد أي تحسن في أدائها أو تطور في وعيها تجاه وسائل الإعلام والمواقع والصحفيين والإعلاميين بشكل عام".
وأكد ناصر في حديث لـ"طريق الشعب"، "استمرار نهج المحاصصة في تشكيل الحكومة، إذ أصبحت الهيئة بمثابة “لقمة دسمة” للكتل السياسية، التي تتنافس للحصول عليها مقابل تنازلها عن حصص أخرى. واستمرار هذا النهج لا يؤدي إلا إلى تقويض الهدف الأساس الذي أنشئت من أجله الهيئة".
ولفت إلى أن "الغاية الرئيسة للهيئة تتمثل في تنظيم قطاعي البث المرئي والمسموع، وربما حتى الفضاء الإلكتروني، إلا أنها – للأسف الشديد – تحولت إلى أداة بيد القوى السياسية. ومن جانب آخر، فإن معظم أعضاء مجلس الأمناء لا يقومون بدورهم المطلوب، فالمسؤولية لا تقع على عاتق رئيس الهيئة وحده، رغم كونه الرئيس التنفيذي، بل إن القرارات تصدر عن مجلس الأمناء، الذي بات عاجزًا عن أداء دوره نتيجة ارتباط معظم أعضائه بأحزاب سياسية وكتل وشخصيات نافذة، سواء بشكل معلن أو غير معلن، وهو ما يشكل عائقًا حقيقيًا أمام تطوير أداء الهيئة وعملها".
أما في ما يتعلق بسياسة الهيئة ونهجها، قال: "شهدنا في الفترة الماضية ازدواجية في المعايير، وانعدام للمهنية وتجلي الانحياز بوضوح. فعلى سبيل المثال، يتم منع بعض الشخصيات من الظهور الإعلامي تحت ذرائع مثل التحريض أو نشر خطابات الكراهية، في حين يتم التغاضي عن خطابات أكثر تطرفًا وتحريضًا صادرة عن جهات وشخصيات أخرى، ما يعكس سياسة انتقائية واضحة".
من جانب آخر، قال ان هناك "العديد من التساؤلات تثار حول علاقة الهيئة بشركات الاتصالات، إذ تعد الهيئة ثاني أكبر مصدر للإيرادات بعد وزارة النفط. كما أن هناك علامات استفهام حول آلية فرض الضرائب على تلك الشركات، وحول الغرامات المستحقة للهيئة، فضلًا عن غموض يكتنف كيفية تسوية بعض الديون والضرائب مع بعض الشركات، مما يفتح الباب أمام شبهات فساد".
وخلص الى القول: ان "واقع الحريات في العراق، يشهد تراجعًا مستمرًا، إذ لم يطرأ أي تحسن على الحريات العامة والصحفية. فما زالت القوانين الموروثة من النظام السابق تُستخدم في محاسبة الصحفيين والإعلاميين والمدونين، إلى جانب وجود قيود جديدة ومشاريع قوانين لا تتلاءم مع الحقوق الدستورية؛ وحتى الآن، لم يُقرّ قانون حق الحصول على المعلومة، رغم المطالبات المستمرة به منذ سنوات، ورغم أن اللجنة الثقافية النيابية اقتنعت بالصيغة التي قدمناها لها، إلا أن الكتل السياسية ما زالت غير مستعدة لمنح هذا الحق".
لماذا ينتظر الصحافيون؟
من جهته، قال رئيس مركز رؤية بغداد للتطوير الإعلامي والدراسات، محمود النجار إن "هيئة الإعلام والاتصالات، منذ تأسيسها وحتى اليوم، لم تكن على قدر المسؤولية والطموح الذي يتطلع إليه الصحفيون والإعلاميون في العراق. فقراراتها كانت ولا تزال تصدر تحت تأثير خلفيات سياسية وضغوط تمارسها الأحزاب المتنفذة، وخصوصًا في ما يتعلق بملفات حقوق الإنسان، والفساد، والنزاهة، وكشف الحقائق، والانتهاكات، والتحرش، وغيرها من القضايا الحساسة التي تمس المجتمع العراقي".
واضاف انه بعد تغيير رئيس الهيئة "لا يمكن الحكم مسبقًا بأن النهج سيبقى كما هو أو أنه سيتغير جذريًا، لكننا بحاجة إلى إتاحة مساحة لرؤية ما إذا كان هناك تغيير حقيقي، كما وعدت الحكومة بذلك. فمنذ تولي رئيس الوزراء محمد السوداني منصبه، توالت الوعود بالإصلاح والتغيير التدريجي، إلا أن هذه الوعود ما زالت تنتظر أن تتحول إلى تطبيقات عملية جادة، تعكس تغييرًا فعليًا في النهج الإعلامي والخطاب الصادر عن مؤسسات الدولة ودوائرها الإعلامية".
وأردف النجار قائلاً: "لا أريد الجزم بأن هناك تغييرًا كبيرًا سيحدث، كما لا يمكنني الادعاء بأن الهيئة ستظل على نفس النهج السابق بغض النظر عن تبديل كوادرها ورؤسائها ومديريها. ولكن ما هو مؤكد أن الهيئة، على مدى السنوات الماضية، لعبت دورًا سلبيًا تجاه الصحفيين، حيث أصدرت قرارات وتعليمات تحدّ من حرية التعبير وتضعف الشفافية الصحفية في العراق".
وأشار الى انه على الرغم من أن "تغيير رئيس الهيئة يعد خطوة جيدة، إلا أن السؤال الأهم هو: ما الذي ينتظره الصحفيون والإعلاميون؟ فحتى الآن، لم تتحول الوعود إلى قرارات حقيقية تعزز واقع الإعلام والصحافة في البلاد"، مؤكداً أن هذه "التغييرات في المناصب الإدارية ان كانت تستند فقط إلى مبدأ المحاصصة الحزبية والسياسية، فلن يكون هناك أي تغيير حقيقي يُذكر".
وأعرب النجار عن أمله في أن تشهد الفترة المقبلة تغييرًا حقيقيًا، وأن تتحلى الحكومة بالمصداقية والجدية في قراراتها المتعلقة بتغيير النهج الإعلامي والصحفي في العراق، مع تقديم دعم حقيقي للصحفيين ولمعالجة القضايا الحساسة في البلاد.
واكد في السياق على أن الإعلام العراقي "يواجه تضييقًا متزايدًا يومًا بعد يوم. ففي السابق، كانت الضغوط تمارس من قبل اذرع مسلحة لجهات سياسية على الصحفيين، أما اليوم فقد أصبح التضييق يأتي من جهتين: الأولى، هذه الأذرع، والثانية، مؤسسات الدولة العراقية، بما فيها الجهات القضائية، والرقابية، والفرق الاستخبارية التابعة للحكومة، التي باتت تمارس تقييدًا متزايدًا على الحريات الإعلامية".
أداة قمعية
إلى ذلك، أكد الصحافي الاستقصائي رحيم الشمري أهمية تصحيح مسار الإعلام في العراق، خاصة بعد أن أصبحت هيئة الإعلام والاتصالات أداة للتضييق على الحريات الصحفية، بدلاً من أن تكون جهة تنظيمية تعمل على تعزيز بيئة إعلامية حرة ومستقلة.
وقال الشمري في حديث مع "طريق الشعب"، أن "سياسات الهيئة خلال السنوات التي أعقبت عام 2003، ونتيجةً لاختيارات الحكومة غير الصائبة لمجالس الأمناء والمدراء التنفيذيين، أسهمت في تراجع الحريات الإعلامية، ولم تقدم أي إضافة حقيقية للمجتمع الصحفي أو للمؤسسات الإعلامية".
واضاف الشمري أن "الهيئة لم تكتفِ بإهمال دورها التنظيمي، بل تحولت إلى أداة قمعية تُستخدم لتقييد الأصوات الإعلامية، كما باتت أشبه بدائرة بلدية تعمل على جباية الأموال بطرق غير مشروعة، من خلال فرض الغرامات والقرارات التعسفية، ما أدى إلى رفع دعاوى قضائية ضدها تتعلق باستغلال السلطة الوظيفية وخرق التشريعات والقوانين النافذة".
وختم الشمري حديثه بالتأكيد على ضرورة "إعادة هيكلة الهيئة وإبعادها عن التسييس والمحاصصة، وإعادة النظر في آليات اختيار قياداتها، لضمان أن تكون مؤسسة تنظيمية مستقلة تخدم حرية الصحافة والإعلام، بدلاً من أن تكون أداة تضييق وقمع للحريات".