يشهد العراق تحديات اقتصادية متصاعدة، نتيجة الانخفاض المستمر في أسعار النفط العالمية، ما يضع المالية العامة للدولة أمام اختبارات صعبة في ظل اعتماد الموازنة بشكل شبه كامل على الإيراد النفطي؛ فمع تراجع الطلب العالمي وزيادة الإنتاج في بعض الدول الكبرى، باتت الأسعار عرضة لمزيد من التراجع، ما يهدد قدرة الحكومة على تمويل نفقاتها التشغيلية والاستثمارية.
وفي ظل هذا المشهد، هناك قلق من غياب استراتيجيات واضحة لتنويع مصادر الدخل، إذ يقتصر التركيز الرسمي على تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين والاعانات الاجتماعية التي تتجاوز حاجز الـ 64 مليار دولار، من دون وضع حلول مستدامة، تعالج العجز المالي المحتمل. كما أن الاعتماد على الاحتياطات النقدية لسد الفجوات المالية يثير تساؤلات حول قدرة العراق على مواجهة الأزمات الاقتصادية مستقبلاً، خاصة في حال استمرار التراجع في أسعار النفط لفترة طويلة.
2025.. عام صعب
وأكد الخبير الاقتصادي، نبيل المرسومي، أن أسعار النفط بدأت تنخفض في الربع الاخير من العام الماضي، حيث انزلقت إلى ما دون 75 دولارًا للبرميل، وهو ما حذرنا منه سابقًا، نظرًا لتأثيره المباشر على الوضع المالي للعراق.
وقال إن سعر البرميل المقدر في الموازنة "يبلغ 80 وليس 70 دولارا، وهو ما كان يتطلب انضباطا كبيرا في المالية العامة، لأن انخفاض الأسعار سيجعل الوضع المالي أكثر تعقيدًا، خصوصًا مع تراجع الطلب العالمي وضعف أساسيات السوق النفطية".
واضاف انه "مع سعر الـ 75 دولارا للبرميل، وجدنا ان هناك عجزا كبيرا في الموازنة العامة، وان الديون الداخلية ارتفعت بمقدار 13 تريليون دينار، حيث أصبحت 83 تريليونا بعد ان كانت 70 تريليون دينار"، محذراً من ان "العام 2025 سيكون الاصعب مالياً واقتصادياً على العراق نظراً، لان كل الاستشرافات لسوق النفط العالمية تتنبأ بضعف التسويق".
وواحد من أبرز العوامل التي تؤثر في الأسعار، هو عودة ترامب للبيت الابيض، وتوجه الولايات المتحدة لزيادة إنتاجها النفطي، في اطار السعي لخفض اسعار الطاقة بنسبة 50 في المائة، مبينا أن واشنطن وضعت برنامجا لرفع الإنتاج النفطي من 3 ملايين برميل يومياً وصولاً إلى 16 مليون برميل يوميًا، ما يعزز من فائض المعروض في الأسواق.
وواصل حديثه بالقول: ان "ترامب طلب من منظمة “أوبك+” والسعودية بالتحديد، رفع مستوى الانتاج والتخلي عن تخفيضات الإنتاج الطوعية البالغة 2 مليون و200 الف برميل يومياً، ما قد يساهم في استمرار انخفاض الأسعار".
وإلى جانب ذلك، اشار المرسومي الى ان "السياسات التجارية للولايات المتحدة، بما في ذلك الحرب التجارية القائمة مع كل العالم، لا تقتصر على الصين وكندا والمكسيك، انما الرسوم الجمركية المفروضة تقوض النمو الاقتصادي العالمي، وتضعف الطلب العالمي على النفط، وتدفع اسعاره للانخفاض".
عجز عن تمويل الاستثمار
وتابع، أن "استمرار انخفاض الأسعار يؤدي إلى تراجع سعر النفط العراقي إلى نحو 67 دولارًا للبرميل بسهولة كبيرة، مما سينعكس بشكل مباشر على الإيرادات النفطية بعد خصم مستحقات شركات التراخيص النفطية، بمعنى ان كل عائدات النفط العراقي بالكاد ستكفي لتغطية فقرتي الرواتب وقدرها 90 ترليون سنوياً إضافة للبطاقة التموينية وقدرها 5 ترليون دينار سنوياً".
وعن تداعيات ذلك على الواقع العراقي، قال إنّ "هذا الوضع سيؤدي إلى عجز كبير في تمويل النفقات الاستثمارية، وربما يدفع الحكومة إلى المزيد من الاقتراض الداخلي والخارجي، ما يفاقم أزمة الدين العام".
كما حذر من أن "استمرار هذا التراجع قد يجبر الحكومة على اتخاذ قرارات صعبة، مثل تخفيض سعر صرف الدينار العراقي لزيادة الإيرادات العامة بعد 6 أشهر او اقل من ذلك".
وأعرب المرسومي عن استغرابه من “الاسترخاء الحكومي والنيابي التام"، حيث تقتصر الأولوية لدى صناع القرار "على تأمين الرواتب كأنها الشغل الشاغل للمالية العامة، دون التفكير في إيجاد بدائل وتنويع مصادر الدخل أو وضع خطط اقتصادية بديلة".
وأكد المرسومي في ختام حديثه، أن "المشكلة لا تتعلق فقط بالرواتب، بل تشمل التزامات اقتصادية أوسع، مثل استيراد الغاز والكهرباء وتمويل المشاريع الاستثمارية، وهي قضايا لا تحظى باهتمام كافٍ من الحكومة أو البرلمان، اللذين يعتمدان بشكل أساسي على احتياطي البنك المركزي العراقي لعبور هذه المرحلة، والتي قد تستمر طوال فترة رئاسة ترامب المقبلة".
تداعيات كبيرة
من جهته، أكد الخبير في مجال الطاقة والنفط، د. بلال الخليفة، أن سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب واضحة وافصح عنها وهي خفض أسعار النفط العالمية، وسبق له أن دعم تشريع قانون “نوبك” لمعاقبة الدول المنتجة للنفط التي يرى أنها تضر بالدول المستهلكة عبر رفع الأسعار.
ونوه إلى ان "الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط، في حال توقفت معركة طوفان الأقصى وهدوء الأوضاع في المنطقة، وإيقاف الحرب الروسية - الأوكرانية، سيؤدي كل ذلك بطبيعة الحال إلى انخفاض أسعار النفط".
وأضاف الخليفة في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "العراق يعتمد بنسبة تفوق 90 في المائة على الإيرادات النفطية، وهو ما يجعله عرضة لتداعيات الانخفاض الحاد في أسعار الخام، فالموازنة العامة لعام 2024 بُنيت على أساس 75 دولارًا لبرميل النفط، ومع ذلك تضمنت عجزًا يقدر بأكثر من 60 تريليون دينار".
وتابع انه "اذا انخفضت الأسعار إلى حدود 60 - 70 دولارًا، فقد يتجاوز العجز 80 تريليونا، ما يشكل خرقًا ومخالفة لقانون الإدارة المالية رقم 6، الذي ينص على ألا يتجاوز العجز نسبة 3 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، في حين أنه قد يصل إلى أكثر من 25 في المائة، وفق التقديرات الحالية".
تنويع مصادر الإيراد
وشدد الخليفة على أن العراق "بحاجة ماسة إلى استراتيجية اقتصادية لتنويع مصادر الإيرادات، عبر إنشاء صندوق سيادي ودعم القطاعات غير النفطية، مثل الصناعة والزراعة، بالإضافة إلى تحسين الجباية في قطاعي الكهرباء والمياه، إذ إن العوائد الحالية لا تغطي حتى تكاليف التشغيل".
كما شدد على "أهمية تطوير قطاع التكرير والصناعات البتروكيماوية، حيث يمكن أن تحقق المنتجات النفطية المكررة عوائد أعلى بكثير من تصدير النفط الخام".
واختتم الخليفة حديثه بالتحذير من "استمرار النهج الاقتصادي القائم منذ 2003، والذي يعتمد على الإيرادات النفطية دون تطوير القطاعات الأخرى"، محذرا من أن استمرار هذا النهج قد يؤدي ـ كما يتوقع خبراء النفط ـ خلال السنوات القادمة إلى موازنة تشغيلية بالكامل، بل قد تصبح الإيرادات غير كافية حتى لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين.
وكان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، أكد مطلع الشهر الجاري، أن تعظيم الإيرادات غير النفطية مهم جداً في دعم خزينة الدولة.
وضع طبيعي
وفي السياق، أكد المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، أن الوضع المالي في العراق خلال الفصل الأول من عام 2025 يسير بشكل طبيعي، رغم استمرار التقلبات في أسواق الطاقة العالمية وانعكاسها على عوائد الموازنة العامة وإجمالي الإنفاق الحكومي.
وأوضح صالح أن "الإنفاق العام يشكل نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مباشر، ويرتفع إلى أكثر من 87% بشكل غير مباشر، مما يعكس اعتماد النشاط الاقتصادي بشكل كبير على النفقات الحكومية التشغيلية والاستثمارية".
وأشار إلى أن "الموازنة العامة الاتحادية المعدلة لعام 2023، التي تغطي ثلاث سنوات، تقدر العجز بنحو 64 تريليون دينار لعام 2025، مع الأخذ بعين الاعتبار تأثيرات الاقتصاد العالمي على ميزان المدفوعات العراقي".
وأكد أن "التقلبات الجيوسياسية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، لا تزال تلقي بظلالها على أسواق الطاقة، وتوقفها سوف يعزز الطلب على الموارد النفطية في أوروبا والعالم". وأضاف صالح أن "السياسة المالية للعراق تمتلك ما يُعرف بـالحيز المالي، مما يمنح الحكومة القدرة على اتخاذ قرارات بشأن الإنفاق العام والضرائب دون التأثير سلباً على الاستقرار الاقتصادي أو القدرة على سداد الديون الخارجية، مع ضمان استقرار رواتب الموظفين والمتقاعدين والالتزام بتقديم الرعاية الاجتماعية".
وشدد على أن "هذا الحيز المالي يتيح للحكومة الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والتعليم والصحة دون توقف، مع تحسين كفاءة تحصيل الضرائب وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي، بما يساهم في حماية النمو الاقتصادي وتقليل الاعتماد على الديون الخارجية".