اخر الاخبار

ذكرى الأول من أيار المجيد، عيد العمال العالمي، اشارة إلى مرحلة مهمة في تطور المجتمع البشري، فلم تكن مفرزات الثورة الصناعية تطورا تكنولوجيا وزيادة في الانتاج وتركز البشر في مدن كبيرة مزدحمة فقط، بل ان من اهمها هو التغيير الاجتماعي الجوهري ونشوء طبقة من حشود غفيرة من البشر اغلبها قدمت من الأرياف تطلب العمل لقاء أجر لتسد حاجتها وحاجة أسرها لقوت يومهم. بدأ هذا في بريطانيا في اواسط القرن الثامن عشر وسرعان ما انتشر في بلدان اوربا وانتقل في القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة الامريكية، وهناك شكل العمال المهاجرون الشريحة الأكبر من القوة العاملة، كانت ظروف العمل مريعة والأجور متدنية وساعات العمل طويلة، فشاعت الإضرابات العمالية في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، وبرز من بين قادة الحركة العمالية الأمريكية عدد كبير من الاشتراكيين والشيوعيين واليساريين الذين كانوا يؤمنون بضرورة إنهاء علاقات الاستغلال الرأسمالي وبناء مجتمع العدالة الاجتماعية.

في 1 مايو من عام 1886 طالب عمال من شيكاغو بتحديد ساعات العمل تحت شعار «ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات فراغ للراحة»،فجاء رد السلطات باطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين وقتلت العديد منهم، وألقى مدسوس مجهول قنبلة في وسط تجمع للشرطة مما أدى إلى مقتل 11 شخصا بينهم 7 من رجال الشرطة واعتُقِلَ على إثر ذلك العديد من قادة العمال ونفذ حكم الاعدام بأربعة منهم، واحياء لهذه الذكرى اقرت الأممية الاشتراكية في مؤتمرها الثاني عيد العمال على انه حدث سنوي، وفي عام 1904 دعا اجتماع مؤتمر الاشتراكية الدولية في أمستردام جميع المنظمات والنقابات العمالية وخاصة الاشتراكية منها في جميع أنحاء العالم إلى التوقف عن العمل في الأول من مايو/أيار من كل عام، وتم السعي لجعله يوم إجازة رسمية في عشرات الدول.

وبعد مرور حوالي قرن ونصف على هذه الأحداث اعترف العالم الرأسمالي بالدور الاجتماعي والاقتصادي المهم للعمال ولكن وللاسف لايزال اهمال طبقة العمال يشكل أحد أسباب التراجع الاقتصادي والاجتماعي المهمة في العراق، بالرغم من انهم يشكلون اهم الموارد البشرية لتطور المجتمع، فلازالوا يقاسون انواع المعاناة والظلم والقهر الاجتماعي والطبقي. ولازال العمال والشغيلة في العراق يناضلون من أجل ارساء ديموقراطية حقيقية ومن أجل الحقوق الانسانية والعدالة الاجتماعية، وضد انتشار وازدياد البطالة وانتشار عمالة الاطفال وتوقف التطور والنمو الاقتصادي نتيجة انعدام الرؤية والسياسات الاقتصادية الخاطئة التي أدت إلى توقف وتدهور الصناعة العراقية وإلى انتشار الفساد في مؤسسات الدولة.

ويشكل اهمال تطوير الموارد البشرية احد اهم اسباب التراجع الاقتصادي في العراق، هذه الموارد المهمة للصناعة والزراعة وقطاعات الاقتصاد، فيتفق اغلب علماء الاقتصاد في العالم ان التطور الاقتصادي يعتمد بدرجة كبيرة على تطور تعليم وكفاءات ومهارات العمال. ويعتبر قطاع التعليم المؤسسة الاجتماعية الأولى لتزويد المجتمع بالمهارات والكفاءات المطلوبة الضرورية لبناء ولتطوير الاقتصاد، ولكن هذه المؤسسة لازالت تعاني من تخلف وتراجع واضح في العراق وهي بحاجة لاصلاح جذري.

ولم تنجح البلدان في التطور الا بتطوير الاقتصاد والمجتمع وحتى البلدان الغنية بالثروات الطبيعية لم تحقق ثروتها دون تطور المجتمع والاقتصاد، وهذا يتطلب توفر ايدي عاملة ماهرة وكفؤءة.

وللاسف لازالت بلادنا تعاني من تفشي الأمية ورداءة نوعية التعليم وخاصة بين الطبقات الفقيرة والفئات العاملة، فاضافة لتفشي الأمية في القراءة والكتابة هناك انتشار للأمية الرقمية واستخدام برامج الحواسيب الاساسية وتفشي عدم المعرفة باللغات الاجنبية والانكليزية بشكل خاص، بالرغم من ان هذه المعارف والمهارات اصبحت اداة مهمة في مجالات العمل والتطور الاقتصادي والاجتماعي. 

وهنا يتوجب على الدولة العراقية توفير الفرص والامكانيات ودعم المؤسسات لتدريب العمال والشغيلة على المهارات المطلوبة من الشركات العاملة في  العراق او التي تتعامل مع العراق. واضافة لذلك عليها وضع التشريعات اللازمة لضمان أولوية فرص العمل والتوظيف للعامل العراقي المؤهل.  

لقد أحدثت التطورات الأخيرة في الاقتصاد والتكنولوجيا العالمية تغييرات كبيرة على مستوى ونوع التأهيل والمهارات التي يحتاجها العامل وإلى تغيير كبير في فهمنا لعملية التدريب والتأهيل للموارد البشرية. لذا يجب اعادة النظر باساليب التدريس ومخرجاته ومناهجه في العراق. والابتعاد عن تعليم المناهج النظرية البعيدة عن واقع الحياة واستخدام المناهج والأساليب التعليمية لكسب المهارات التي يتطلبها الاقتصاد والحياة الواقعية الحديثة.

وأحيانا يشكل الفقر المدقع عائقا وحاجزا أمام التحاق العامل والمواطن بفرص التعليم والتدريب والتاهيل، وهنا على الدولة ان تتدخل وتقدم الدعم اللازم لتمكين العمال والمواطنين بالالتحاق بالفعاليات التدريبية والتأهيلية والتعليمية، وقد يشمل هذا كلف التنقل وتقديم وجبات الطعام وحتى الملابس والعدد والأدوات الضرورية.

تروج الدولة العراقية اليوم لجذب المستثمرين من كل انحاء العالم  للاستثمار في العراق، وشرعت لهذا قانونا ووضعت مؤسسات وموظفين برواتب ليست بالقليلة لهذا الغرض. لكنها لم تنتبه إلى عامل مهم واساسي لجذب المستثمر، فالاستثمار ينجذب إلى المناطق التي تتوفر فيها القوى العاملة، ليست الرخيصة، ولكن القوى العاملة المؤهلة والكفؤة لذلك نجد ان دول اوربية من أكثر مناطق جذب الاستثمارات. وللأسف العراق يتراجع في المنافسة الدولية وحتى على مستوى المنطقة فيما يخص تأهيل القوى العاملة. لذلك انحصر الاستثمار، اضافة للفساد المستشري، وأصبح يعتمد على استثمارات في مشاريع يتم فيها صيد الغنائم التي تمنحها الدولة ولتحقيق ارباح سريعة استغلالية مقابل منتجات رديئة وإخراج أموال هذه الارباح إلى خارج البلد، كما ونجد ان هناك كثيرا من المشاريع تعتمد على جلب العمالة الاجنبية بذريعة عدم توفر العمالة العراثية المؤهلة.     

كما وعلى مؤسسات الدولة المعنية التعاون مع الشركات العاملة والنقابات العمالية لتحديد اهداف واضحة لعملية التدريب والتأهيل المهني للقوى العاملة الضرورية للتصنيع وقطاعات الاقتصاد الاخرى، وبشكل خاص التركيز على الهدف الشامل المتمثل في رفع مهارات وكفاءات العامل والفرد العراقي، وبشكل لا لبس فيه، فتوفير موارد بشرية كفؤة يؤدي إلى نمو صناعي واقتصادي مستدام ويؤدي عادة إلى انخفاض كبير في الفقر، وعلى عكس ذلك، فسيكون الحد من الفقر صعبا للغاية إذا استمر التراجع والركود.

اضافة للتأهيل والتعليم العام فهناك التدريب، وبشكل عام يمكن ذكر ثلاثة أشكال للتدريب والتأهيل الاضافي:

1- التدريب المستمر داخل المصانع والمؤسسات، وعلى سبيل المثال، تقديم معارف تفصيلية حول العمليات التشغيلية أو حاجات الزبائن.

2-                   التدريب المستمر الخاص بالشركات وهذه دورات تدريبية تستهدف نشاط الشركة على وجه التحديد وتشرح أساليب جديدة أو تنقل أساليب مبتكرة نافعة في نشاطها. ولهذا السبب فإن هذا النوع من التدريب الإضافي مفيد للعاملين من أجل تدريب المتخصصين والحصول على أفكار جديدة من خلالهم. و

3-                   ثالثا التدريب المستمر على المهارات الشخصية والاجتماعية الناعمة وتعمل هذه المهارات على تحسين التعاون داخل مجاميع العمل وتحفيز تحسين وتطور الاداء، وتشمل، على سبيل المثال لا الحصر، مهارات التواصل والقدرة على التعامل مع النقد وحل النزاعات، والالتزام والانضباط الذاتي وإدارة الوقت.

ويجب على هذا النظام التأهيلي والتدريبي ان يراعي:  

  1. توفير المشورة لكيفية الحصول على التدريب، فأساس أي نظام تدريب إضافي متطور هي الجهود المبذولة للتغلب على عوائق الوصول اليه. وسهولة مخاطبة الأشخاص المسؤولين عليه وحسن تقديمهم للمشورة لهم أمر أساسي هنا، خاصة أولئك الذين لديهم احتياجات تأهيلية كبيرة وميل قليل للتعليم. وفي اغلب الاحوال تنشأ العوائق بسبب نقص المعلومات والارتباك حول خيارات التمويل، وأيضا بسبب الجوانب الاجتماعية والنفسية (الدافع، والثقة بالنفس، ونوع المشورة المقدمة). لذلك يمكن الافتراض أنه، بغض النظر عن كمية ونوعية التمويل، فإن تكامل وتنظيم ونقل المشورة وعروض التدريب الإضافية وكذلك الدعم أثناء التدريب الإضافي لها أهمية قصوى في الممارسة العملية. ويسير هذا جنبا إلى جنب مع خلق ثقافة تدريب مفتوحة ونشطة. ومن شأن سن قانون يهدف إلى مواصلة التدريب أن يساعد في تنظيم هياكل التدريب الإضافي بشكل أكثر وضوحا.
  2. تحديد المؤهلات الموجودة واحتياجات التأهيل: وتعني هذه تحديد المؤهلات ومستوى المعرفة المتوفرة بالإضافة إلى احتياجات تطويرها الناتجة من ذلك. فمن ناحية، يتطلب ذلك تسجيل الخبرة الحالية والتحقق من صحتها، ومن ناحية أخرى، يتطلب تقييم الاحتياجات التدريبية الإضافية الفردية للأشخاص في سن العمل في ضوء أسواق العمل المتغيرة. وينطبق هذا بشكل خاص على الأشخاص الذين يعملون في المهن أو القطاعات التي يتقلص مجال نشاطها أو تحتاج بشدة إلى التغيير الهيكلي. ويمثل هذا تحديا كبيرا، لأن هذا التحديد يتطلب معرفة متعمقة بأسواق العمل المهنية والإقليمية المحددة. ومن دون القرب من العمليات التشغيلية الملموسة والمحددة للغاية التي يمتلكها الشركاء الاجتماعيون، يصعب تنفيذ هذا الجانب المركزي.
  3. مسارات التطوير: وبناء على ذلك لا بد من تحديد مسارات التطوير العملية والمناسبة للأفراد. ويجب أن تستند هذه إلى المؤهلات والخبرة الموجودة. تتحرك مسارات التطوير دائما في مجال الشد بين المؤهلات والأنشطة السابقة والميول الفردية والتغيرات المتوقعة في المؤسسات وفي سوق العمل. و هنا يلعب توفير فرص الحصول على مؤهلات جزئية أو إضافية معتمدة من خلال برامج وتسلسلات تدريب إضافية مناسبة دورا رئيسيا.
  4. توفير الموارد الزمنية: و يجب توفير الوقت للعمال لتمتعهم بمزيد من التدريب، لا سيما اذا كانوا في علاقات عمل قائمة ومستمرة، على سبيل المثال من خلال منحهم إجازة مناسبة بدوام كامل أو بدوام جزئي مع التعويض المناسب عن الأجور المفقودة أو تقديم الإعانات المقابلة لأصحاب العمل.
  5. التمويل: يحتاج الأشخاص الذين يمرون بمراحل تدريب طويلة بشكل خاص (سواء كان ذلك إعادة تدريب مكثفة أو تحسين تدريجي للمهارات) إلى الدعم المالي والحوافز. وهذا يتطلب نموذج تمويل متوافق مع الحوافز. فهناك لدى الدولة مصلحة قوية في خلق عوامل خارجية إيجابية (مايسمى: الاستثمار الاجتماعي) من خلال تمويل المزيد من أنشطة التدريب، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى دعم الاقتصاد وزيادة كفاءته وفي الوقت نفسه مكافحة وتقليل مخاطر البطالة. كما ان لدى الشركات مصلحة أيضا بأشكال معينة من التدريب الإضافي بمعنى المؤهلات الخاصة بالشركة، وهنا يجب ضمان مشاركة مختلف الجهات الفاعلة المعنية في التكاليف من أجل إعطاء الشكل المرغوب من التدريب.
  6. ضمان الجودة: يجب على جهات الدولة المعنية ليس الاعلان أو الترويج للعروض المناسبة فقط، بل يجب أيضا مراقبة قابلية التطبيق والنوعية والجودة في الممارسة العملية لهذه البرامج. بالإضافة إلى توفير الخدمات الاستشارية الأساسية ذات الحد الأدنى، فإن الأمر الحاسم هنا هو المعلومات الشفافة حول ضمان جودة العروض الاستشارية والتدريب الإضافي. ومن حيث المبدأ، ينبغي ربط هذه الأمور بالرصد والمتابعة المستمرة والتقييم المستمر والمتواصل.

ان ارساء نظام يؤمن تطور كفاءات وتأهيل القوى العاملة العراقية سيدفع الاقتصاد العراقي إلى الامام ويرفع من مستوى جودة منتجاته وبالتالي قدرته على المنافسة مع المنتجات الاجنبية الاخرى.

فلابديل لارساء نظام اقتصادي واجتماعي يمتلك سياسة ورؤية واضحة لتطوير البلاد بمساهمة فعالة من نقابات عمالية عراقية قوية، كما ويجب تحديد حرية رواد الأعمال والمستثمرين وان لا يطلق لهم الحبل على الغارب لاستغلال القوى العاملة والمواطنين بدون مراعاة الحقوق الاجتماعية والحاجات الانسانية، من خلال تنظيم وتشريعات وحماية المستهلك وتنظيم المنافسة، على اساس مشاركة المواطن في اتخاذ القرارات ووضع تشريعات عمل تحمي العامل والمواطن العراقي. ويجب ترسيخ مفهوم ان الاقتصاد موجود لخدمة ومن أجل المجتمع، وليس العكس. فالاقتصاد لوحده لا يحل جميع المشكلات الاجتماعية بشكل تلقائي: والحسابات المحصورة بمفهوم السوق حصريا فقط يمكن أن تسبب مشاكل اجتماعية وكلف خارجية هائلة لا يستطيع السوق حلها بنفسه. ان كلمة “اجتماعي” ليست مجرد صفة زخرفية، بل يجب ان تكون جزءا لا يتجزأ من هذا المفهوم التنظيمي العام.

عرض مقالات: