اخر الاخبار

يُعَدّ القطاع الزراعي في العراق واحداً من أكثر القطاعات الحيوية، لما يمتلكه من مقومات أساسية للنهوض وتحقيق التنمية المستدامة، غير أنّه يواجه تحديات معقدة جعلته عالقاً بين مطرقة الاستيراد وسندان ضعف المنتج المحلي. هذه التحديات، الخارجية منها والداخلية، تسببت في تراجع مساهمة الزراعة في الاقتصاد الوطني وأضعفت قدرة البلاد على تحقيق أمنها الغذائي.

المنافسة غير العادلة

بدأت معاناة الزراعة العراقية مع سياسة "الباب المفتوح" التي فُرضت بعد عام 2003، والتي سمحت بدخول كميات ضخمة من المنتجات الزراعية المستوردة إلى الأسواق المحلية. هذه السياسة، إلى جانب غياب الرقابة الفاعلة، أسهمت في إغراق السوق بالسلع الأجنبية، ما جعل المنتج المحلي في مواجهة منافسة غير عادلة.

تتمثل خطورة هذه المنافسة في أن أسعار المنتجات المستوردة غالباً ما تكون أقل من كلفة الإنتاج المحلي، نتيجة الدعم المقدم لها في بلدان المنشأ أو بسبب سياسات الإغراق الاقتصادي. هذا الواقع أدى إلى تراجع قدرة المزارعين العراقيين على الصمود، ودفع الكثير منهم إلى تقليص مساحات الزراعة أو ترك المهنة نهائياً. ومع ذلك، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انعكس سلباً على الأمن الغذائي الوطني، وأدى إلى نزيف مستمر للعملة الصعبة، إذ تستنزف فاتورة الاستيراد الزراعي مبالغ طائلة من الموازنة العامة كان الأجدر أن تُوظف لدعم وتطوير الإنتاج المحلي 

معوقات داخلية متجذرة

إلى جانب المنافسة الخارجية، يقف المزارع العراقي أمام معوقات داخلية لا تقل خطورة. فالتحديات البيئية والمائية تُعد من أبرز ما يواجه الزراعة، حيث يعاني العراق من شح المياه بسبب السدود التي أقامتها دول الجوار على نهري دجلة والفرات، فضلاً عن تفاقم ظاهرة الجفاف والتصحر التي قلصت من المساحات الزراعية الصالحة للإنتاج. يضاف إلى ذلك تدهور التربة نتيجة الملوحة وتهالك شبكات الري والبزل.

أما على مستوى البنية التحتية والتقنيات، فما زال الاعتماد واسعاً على طرق الري التقليدية التي تهدر كميات كبيرة من المياه، في حين أن تقنيات الري الحديثة كالري بالرش والتنقيط لم تُطبّق بشكل فعّال. كذلك، يشكل ضعف المكننة الزراعية وقدم الآلات والمعدات عائقاً أمام زيادة الإنتاجية، في وقت يعاني فيه البحث والإرشاد الزراعي من قصور كبير، انعكس على جودة البذور وفعالية مكافحة الآفات الزراعية.

ولعلّ أكثر ما يُثقل كاهل الفلاحين هو الجانب الاقتصادي والإداري، حيث تراجع الدعم الحكومي المقدم لهم، سواء في توفير الأسمدة أو البذور أو مصادر الطاقة. كما أنّ غياب خطط تسويقية واضحة لحماية المنتج المحلي جعل المزارع في مواجهة خسائر فادحة عند وفرة الإنتاج.

وإلى جانب ذلك، يعاني القطاع الزراعي من نقص الاستثمار وضعف التمويل، الأمر الذي ساهم في نزوح أعداد كبيرة من الفلاحين إلى المدن بحثاً عن فرص عمل بديلة. 

حلقة التبعية للخارج

إن ما يعيشه القطاع الزراعي في العراق اليوم هو انعكاس لمجموعة من التحديات البنيوية والبيئية والسياسية. فالمنتج المحلي الذي يواجه معوقات داخلية حادة أصبح عاجزاً عن مجاراة السلع المستوردة المدعومة، ما ساهم في إدامة حلقة التبعية للخارج، وأضعف فرص البلاد في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي.

ولكي يتمكن العراق من استعادة مكانة الزراعة كركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، لا بد من اعتماد سياسات متكاملة تُعالج نقاط الضعف الداخلية، وتوفّر في الوقت ذاته الحماية اللازمة للمنتج الوطني في مواجهة المنافسة الخارجية غير المتكافئة. عندها فقط يمكن للقطاع الزراعي أن ينهض من كبوته، ويعود ليسهم بفاعلية في تحقيق الأمن الغذائي والتنمية المستدامة.

ــــــــــــــــــــــــــ

* مهندس زراعي استشاري