اخر الاخبار

لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة مفاجِئة بقدر ما كانت كاشفة لحقيقة طالما تجاهلها الكثيرون: إن المشهد السياسي العراقي ما زال محكومًا بذات البُنى التقليدية التي صنعها الاحتلال، ورسّختها سنوات الفساد والصراع الطائفي، وأعادت إنتاجها القوى المتنفذة عبر أدوات الدولة ومواردها. وفي خضم هذا الواقع المعقّد، وجد الحزب الشيوعي العراقي نفسه، شأنه شأن التيار المدني عمومًا، عاجزًا عن ترجمة حضوره التاريخي ومواقفه الوطنية إلى تمثيل برلماني ملموس.

لم يكن الأمر نتاج حملة انتخابية ضعيفة، ولا نتيجة خيارات تنظيمية خاطئة، كما حاول بعض الكتّاب تصويره، بل هو انعكاس طبيعي لبنية سياسية لا تسمح لقوى التغيير بأن تتنفس، فضلًا عن أن تتقدم أو تنافس. ولذلك فإن السؤال الحقيقي ليس: لماذا خسر الحزب الشيوعي؟ بل: ما الذي يجعل الربح نفسه مستحيلاً في ظل معادلاتٍ مختلّة سلفًا؟

هذا المقال يحاول تحليل العوامل العميقة التي قادت إلى غياب الحزب الشيوعي العراقي عن التمثيل البرلماني، عبر قراءة أوسع من الأشخاص والحملات، وأعمق من نتائج صندوق الاقتراع.

أولًا: تحولات الوعي السياسي العراقي وتآكل الهوية الوطنية

لم يعد المجتمع العراقي اليوم هو ذاته مجتمع الأربعينيات والخمسينيات والسبعينيات، حين كان الوعي السياسي يتسم بالنضج والانتماء الوطني العابر للطوائف، وكانت الأحزاب الوطنية – وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي – تقود الجماهير نحو مطالب واضحة تستند إلى مشروع وطني تقدمي.

لكن سلسلة الأحداث التي ضربت البلاد منذ أواخر السبعينيات، وبالأخص سياسات نظام البعث في عهد صدام حسين، أحدثت شرخًا عميقًا في الوعي الجمعي:

 • الحروب العبثية التي استنزفت قدرات المجتمع.

 • الحصار الاقتصادي الذي دمّر الطبقة الوسطى، وهي الحاضنة الطبيعية للفكر المدني.

• تفكك النسيج الاجتماعي وارتفاع الحساسية الطائفية.

هذه التحولات أضعفت الثقافة الوطنية المدنية، وفسحت المجال أمام صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

ثانيًا: ما بعد 2003 – صعود الأحزاب الدينية وترييف الدولة

أفرزت مرحلة ما بعد 2003 واقعًا سياسيًا جديدًا مغايرًا تمامًا لما سبق. فقد تصدّرت السلطة أحزابٌ ذات خطاب ديني سلفي الطابع، عملت على:

1. نشر ثقافة تُضعف قيم المواطنة والعقلانية.

2. تعزيز العشائرية كأداة نفوذ سياسي.

3. شرعنة الفساد وحماية الفاسدين.

4. استغلال موارد الدولة لصالحها في الانتخابات.

هذه البيئة الطاردة لقوى الدولة المدنية جعلت من خوض الانتخابات أمام تيارٍ مدعوم بالمال والسلاح تحديًا شبه مستحيل.

ثالثًا: التدخلات الخارجية والميليشيات الولائية

لا يمكن تجاهل الدور الإقليمي، خصوصًا الإيراني، في توجيه العملية السياسية، وذلك عبر:

• دعم أحزاب محددة ماليًا وإعلاميًا.

• تسليح ميليشيات تمنحها قدرة على ترهيب الخصوم.

• التأثير في مسارات تشكيل الحكومات والهيمنة على القرار السياسي.

هذه العوامل تُقوّض أية إمكانية لانتخابات حرة فعلاً، وتضعف التيارات المدنية التي لا تمتلك مظلات مسلحة أو خارجية.

رابعًا: القانون الانتخابي – عراقيل أمام القوى الصغيرة

جاء القانون الانتخابي الحالي مصممًا لخدمة القوى المتنفذة، من خلال:

• تقسيم الدوائر بطريقة تُشتت أصوات المستقلين والمدنيين.

• غياب آليات واضحة لمنع التزوير أو شراء الأصوات.

• سلطة المال السياسي على إرادة الناخبين.

هذا القانون لا ينتج تمثيلًا حقيقيًا بقدر ما يعيد إنتاج القوى المسيطرة.

خامسًا: البيئة الاجتماعية

وظروف العمل السياسي المدني

يتحرك الحزب الشيوعي في وسط اجتماعي يواجه تحديات موضوعية ضخمة:

 • تقلّص الطبقة الوسطى التي يتغذّى عليها الفكر المدني.

• سيطرة إعلام موجّه لا يسمح بانتشار الخطاب التقدمي.

• ثقافة الخوف والإحباط من التجارب الإصلاحية السابقة.

• ضغط المجتمع التقليدي على خيارات الشباب والنساء.

هذه العوامل تجعل تحويل الرصيد النضالي للحزب إلى أصوات انتخابية أمرًا معقدًا للغاية. 

سادسًا: تحالف البديل – محاولة شجاعة في بيئة غير منصفة

خاض الحزب الشيوعي الانتخابات ضمن “تحالف البديل”، أملاً في كسر منظومة الفساد.

لكن الرهان اصطدم بواقع سياسي غير متكافئ:

 1. بيئة انتخابية لا توفر تكافؤ الفرص.

 2. ضعف الموارد مقارنة بالخصوم.

3. استقطابات طائفية ما تزال قادرة على حسم النتائج.

وبالتالي لم يكن غياب الحزب عن التمثيل البرلماني ناتجًا عن قصور داخلي فقط، بل عن بنية سياسية مختلّة تُقصي كل صوت إصلاحي.

الخلاصة إن عدم حصول الحزب الشيوعي العراقي على أي مقعد ليس حدثًا معزولًا، بل هو جزء من أزمة بنيوية يعيشها العراق منذ عقود.

أزمة وعي، وأزمة دولة، وأزمة بنية سياسية صُممت لضمان بقاء القوى المتنفذة وإقصاء كل مشروع وطني تقدمي.

ومع ذلك، يبقى الحزب الشيوعي – بتاريخ نضاله ومواقفه الوطنية – عنصرًا أساسيًا في معركة استعادة الدولة المدنية، مهما تعاقبت الهزائم الانتخابية. فالمعركة السياسية في العراق لا تُختصر في عدد المقاعد، بل في القدرة على الدفاع عن القيم الوطنية والإنسانية التي يُراد لها أن تختفي وسط صخب الطائفية والمال والسلاح.

إن العراق بحاجة إلى صوتٍ مختلف…

والصوت المختلف لا يُقاس بحجمه في البرلمان بل بقدرته على إيقاظ الوعي