*كيف تقيّمون المشهد الانتخابي العام من حيث البيئة السياسية والقانونية والتنظيمية؟ وهل كانت قادرةعلى انتاج تمثيل حقيقي يعكس ارادة الناخبين؟
اتسمت البيئة السياسية المفضية الى انتخابات 11/ 11/2025 بغياب البرامج التفصيلية والخطط المطلوبة للنهوض بالواقع المتردي، مع تعدد الكتل المشاركة، والنزوع نحو تلميع صورة زعمائها، وشيوع خطاب الشعارات تعبيراً عن توجهاتها، خاصة الخطاب الطائفي داخل المكون الواحد، المحمول من قبل الزبائنية، الامر الذي يعني زيادة عدد الكتل السياسية، وانتشار ظاهرة الكتل السياسية المسلحة داخل المكون الواحد، مع الوعد بالتحام تلك الكتل في مجلس النواب القادم، من اجل تشكيل الكتلة الأكبر. يضاف الى ذلك تأثير الاحداث في محيطنا الاقليمي على الوضع السياسي والامني والاقتصادي في العراق، كالحرب في جبهة غزة وجبهة لبنان، والتحول السياسي في سوريا، وحرب الـ 12 يوما على ايران، فضلا عن التدخل الخارجي المقصود، وغير ذلك من الاحداث المصاحبة ذات التأثير الواضح في البنية السياسية، المتوجهة نحو الانتخابات. فهذه البيئة السياسية عززت السلوك الطائفي والاثني، ورسخت المسعى المحاصصاتي في مقابل تشظي القوى العابرة للطائفية وقلة فاعليتها .
بالنسبة للبيئة القانونية أعود الى قول العميد ديكي ( Duguit ـ 1859 ـ 1928 ): "ان هيئة المواطنين هي عدد من المواطنين يعودون لنفس الشعب او الامة ويقبضون على قوة حاكمة، وبالتالي يمارسون سلطة سياسية .. ". فهيئة المواطنين القابضة على السلطة لدينا، تمكنت من توظيف الاقتراع السياسي ونصوصه التشريعية، كنظم الانتخاب ونظم التصويت ونظم الادارة الانتخابية، بما ينسجم مع مقاساتها واهدافها الانتخابية، المفضية الى ترسيخ البقاء في السلطة وتدوير الوجوه ذاتها. فتحقيق هذه الاهداف طلب ملح عندها، وإن تطلب ذلك تعديل القوانين في كل دورة انتخابية، ما دام يؤمّن اسباب البقاء، ويقصي الآخر. ومن أمثلة ذلك قيام السلطة التشريعية بمسخ "سانت ليغو الأصلي" واعطائه نسبا رقمية اعلى، للحيلولة دون صعود التنظيمات السياسة الصغيرة او الشخصيات المستقلة، والابقاء على حالة احتكار السلطة من قبل التنظيمات ذات الخطاب السياسي الطائفي، وعدم تكرار تجربة انتخابات مجالس المحافظات 1918 ، التي مكّنت بعض القوى المدنية من الدخول الى المجالس، عندما كان"سانت ليغو) بصحته الكاملة، قبل ان يدركه التشويه. فالبيئة القانونية باختصار شكّلها الماسكون بالسلطة لمصلحتهم حسب .
وبخصوص البيئة التنظيمية، صدر قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات الرقم 11 لسنة 2007 ونصت المادة (2) منه على انها هيئة مهنية حكومية مستقلة ومحايدة، تتمتع بالشخصية المعنوية وتخضع لرقابة مجلس النواب. وبيّن القانون هيئاتها في الفصل الثالث، وصلاحيات مجلس المفوضين في الفصل الرابع، والادارة الانتخابية في الفصل الخامس، واستبدال الاعضاء في الفصل السادس، وحقوقهم في الفصل السابع، والشكاوى في الفصل الثامن.
ينص قانون المفوضية على الاستقلال والحيدة، ومرجعية الاستقلال هنا هو نص المادة (102) من الدستور، كما انها تعلن نفسها من خلال ممثليها هيئة مستقلة، تضع الانظمة التي تتيح وضع العملية الانتخابية تحت مراقبة المراقبين الدوليين والمحليين ومنظمات المجتمع المدني ووكلاء الاحزاب السياسية، فضلا عن خضوع قرارتها للطعن امام هيئة مستقلة في محكمة التمييز الاتحادية. الا ان واقع الحال يقول ان هذه الهيئة، ورغم طغيان النصوص النازعة للاستقلال، تنتمي الى النظام السياسي القائم وتشكل جزءاً منه، والا كيف نفسر شيوع المحاصصة وشراء الاصوات والوضع الباذخ للدعاية الانتخابية، وولوج تنظيمات سياسية الى عالم الانتخابات بأذرع مسلحة، وتوظيف اكثر من مليوني مراقب.
*ما قراءتكم لطبيعة المشاركة المجتمعية في العملية الانتخابية ؟ بما في ذلك دوافع المشاركة او المقاطعة السياسية، وحدود تأثيرها على القوى المدنية والقوى المتنفذة ؟
القوى العابرة للطائفية منقسمة ويمكن تصنيفها الى فئتين، الاولى ترى ان المساهمة في الانتخبات تشكل شرعنة للنظام السياسي القائم ومشاركة له، مع انه مثقل بتهم الفساد بكافة اشكاله، وموسوم بالمحاصصة المقيتة، ومتمسك بالسلطة بكل وسيلة، بضمنها المال والسلاح، ومحتكر لها، ومتمسك بالمغانم والمكاسب وغير مستعد للتنازل عنها. اذن وضمن هذا التوصيف للوضع القائم، فان المشاركة في العملية السياسية عديمة الجدوى، وأقرب الى ضحك على الذقون. لذا فان البقاء بعيدا عنها ونقيا، افضل قطعا من المشاركة . ثم ان البرلمان ليس الساحة الوحيدة للعمل السياسي والنضال من اجل الوطن، فهناك ايضا ساحات وفضاءات أوسع واكثر رحابة.
والفئة الثانية تقول بامكانية اعتماد أي سبيل متاح لتحقيق الاهداف المرسومة، وان طرق ابواب البرلمان ليس سبّة ولا مسألة مخلة بالسلوك، ما دام ذلك مغطى بتنظيم وفق قانون صادرعن سلطة تشريعية، تتيح لاي تنظيم سياسي او شخصية مستقلة، ممارسة حق المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية، بما في ذلك حق التصويت وحق الانتخاب وفق المادة (20) من الدستور. أي انه سبيل مشروع وممكن، وعلى القوى غير الطائفية سلوك أي سبيل يمكن ان يوصلها الى تحقيق أهدافها، او بعض من تلك الأهداف، ما دام ذلك السبيل لا يمس العفة التي يتمتع بها هذا التشكيل او ذاك. لذا فان الاشتراك في الانتخابات هو ممارسة لحق دستوري، وليس مشاركة للفاسدين، ممارسة حق أتاحه القانون ويمكن من خلاله الامساك ببعض ملامح الاهداف المرجوة.
ولنتذكر صلح بريست الذي ابرمه لينين مع أعتى القوى الروسية رجعية حينذاك، والذي لم ينل من السلوك الثوري البلشفي للرجل، وما زال الى يومنا مثالا يحتذى. ولنا في مقالة الاستاذ رضا الظاهر أخيرا على هذه الصفحة ورجوعه الى المنبع، اسوة حسنة.
* ما هو تقييمكم لنتائج الانتخابات بالنسبة للقوى المدنية، وهل تعكس تراجعا ظرفيا ام بنيويا؟ وما هي العوامل التي اسهمت في تشكيل هذا المسار؟
ثلاثة عوامل ساهمت وأفضت الى النتائج الانتخابية المعلنة بوضعها الحالي. العامل الاول هو حجم المال المُنفق في العملية الانتخابية والطابع الباذخ للدعاية الانتخابية.
العامل الثاني هو شراء اصوات الناخبين، وهو ما لم يعد خافيا، ولا يحس المنخرطون فيه بأيّ حرج. حتى ان احدهم وأمام عيون الأشهاد ارسل 1500 شاب للتدريب العسكري ووعدهم بالتعيين، مقابل تصويتهم له!
والعامل الثالث هو تسجيل المفوضية اكثر من مليوني مراقب! فهذا الرقم المتورم للمراقبين أخلّ بالنتائج الانتخابية، وانعكس سلبا على القوى المدنية، مع ان ذلك مؤشر ايجابي على نظافة يد هذه القوى، كونها غير مسؤولة عن هذه النتالئج. فقد استعمل الخصوم اسلحة ضد القوى المدنية، تأنف هذه القوى عن استعمالها وتأبى حيازتها. لكن هذه الحقيقة لا تعفي القوى المدنية من مسؤولية التراجع.
في شأن التراجع الظرفي: النظام الانتخابي بشكل عام وسانت ليغو الممسوخ على وجه التحديد، والخبرة المميزة للاسلام السياسي في التعامل مع التنظيم التشريعي الانتخابي وتوظيفه لصالحه، والمراوغة المقصودة في التحالفات والالتفافات، فضلا عن العائلة، والعشيرة، والطائفة، والتوظيف الفقهي لبعض رجال الدين، والمال مجهول المالك، هذه كلها شكّلت بيئة حاضنة للنتائج الانتخابية المذكورة، وهي كلها حالات ظرفية وليست بناءَ مؤسسيا، لأنها يمكن ان تختفي وتزول بالعمل الجاد والمثابر، وبكشف المستور .
اما التراجع البنيوي فقد تجلى في تشرذم القوى المدنية، وفشل مساعي شد اللحمة، رغم نبل الجهود المبذولة في هذا الجانب. كذلك تعدد المشاريع والخطط واختلافها، وطغيان موروث (الدوغمائية) لدى البعض، والذي وصل حد رفض التحاور مع الآخر. يضاف الى ذلك ان سلوك البعض المتعالي معرفيا امام الجماهير محدودة المعرفة، وعجزهم عن ايصال معارفهم الى تلك الجماهير، وعن المواءمة بين الدوغما والرقمنة، خلق حالة انكفاء عن جمهور واسع، وفقدان الثقة باداء القوى المدنية.
* كيف تنظرون الى مشاركة الحزب الشيوعي والقوى المدنية الاخرى في الانتخابات؟ وما هي رؤيتكم الى المنهج الذي يجدر بنا مجتمعين ان نعتمده في عملنا خلال المرحلة المقبلة؟
في الانتخابات السابقة (2021) اختار الحزب الشيوعي المقاطعة، بعد ان اخضع الموضوع للنقاش والحوار وتداول الأفكار، وقد افضى هذا المخاض الى المقاطعة. فالقرار لم يكن فرديا او متخذا من القيادة، بل تم عبر الاستفتاء. وهذا يعني خضوعه للآليات الديمقراطية وبافضل تجلياتها .
تلك كانت تجربة، وحيث انها كذلك فقد تمت قراءة تفاصيلها واخضاعها للنقاش والتقويم. وهو ما افضى الى الاستنتاجات الآتية: 1 – ان المشاركة في الانتخابات ليست تزكية للماسكين بالسلطة، حسبما يروج الضجيج المثبط، بل هي حق كفله الدستور في مادته (20). فالمشاركة تتم في نطاق المشروعية وان اختلفت الالوان المشاركة في الانتخابات، وهي من حيث المبدأ نوايا نبيلة وليست آثمة. 2 – ان الانتخابات البرلمانية ساحة صراع للرؤى والبرامج والسياسات، وليست احكاما بشأن ما يجوز وما لا يجوز. والصراع مع الخصوم يحدد المختلف عليه، ويرسم ساحات النزاع، ويبرز الاسلحة الفكرية المختلفة. لذا يكون من العيب ان يوصف كل ذلك بالمداهنة او التعاطف مع الخصم. 3 – ان المقاطعة هي حالة الاستثناء التي لا يجوز التوسع فيها، وقد جرب الحزب الشيوعي المقاطعة بحالتها الاستثنائية، التي حلت من دون ان تطرح ثمارا. لذا لا يجوز الاصرار على حالة الاستثناء، مع ما يرتبط بها من عقم. 4 – ان التراث الثوري هنا، بدءاً بماركس ولينين وانتهاءً بألتوسير والمنظرين المعاصرين، وتجارب الاحزاب الشيوعية التي خاضت الصراعات الانتخابية مع اشد احزاب اليمين شعبوية، كل هذا التراث له أهميته الكبيرة، وتجدر العودة اليه دائما والتعلم منه والاعتبار به.
ـــــــــــــــ
* قاضٍ متقاعد