الحفرُ، في جوهرِه ليس فعلاً بحثياً بقدر ما هو محاولةٌ يائسةٌ لافتعالِ معنى في أرضٍ لا تتألمُ! كلُ ضربةٍ في العمقِ سؤالٌ بلا إجابةِ، وكلُ فراغٍ يتكوّن تحت السطح يُنبّهنا إلى أن الإنسان لا يفعل سوى توسيع هوّةٍ فراغيةٍ يتوهّمُ أنه يملؤها. وصوت اللاجدوى يُردد في دواخلنا: احفرْوا.. احفرْوا.. فأنتم لا تجيدون غيرَ الحفرِ!
هناك مفرداتٌ في المعجمِ العربي لا تُثيرُ أي التباسٍ بطبيعتِها، إلا في العراقِ. ومن ذلك مفردة "بئر"، بينما تُطلق على منبع يُثري اقتصاد الدولة، تُستخدم نفسُها لوصفِ حفرةٍ يحفرُها مواطنٌ في فناءِ بيتهِ ليشربَ.
وعلى حينٍ تتصدرٌ بئرُ النفطِ نشراتِ الأخبارِ باعتبارها ثروةً، احتياطياً، مورداً إستراتيجياً، تُتداولُ بئرُ الماءِ في أحاديثِ العطشى باعتبارها اضطراراً، لا قُلْ مرضاً!
المفارقةُ ليست في الآبارِ، بل في اللغةِ نفسِها حين يتبدّل معناها من سياقٍ إلى سياقٍ. شتّان بين من يغني جيوبَه بموازناتٍ أصلها نفطٌ، ومن يتوسّلُ الأرضَ قطرةً عذبةً تروي ظمَأه. ووسط هذا الارتباكِ اللغويِ، تتقدّمُ مفارقةٌ أخرى أشدّ سخريةً: العراقُ، الذي تُعرِّفه الجغرافيا بأنه "بلد النهرين"، قد يجد نفسَه مضطراً لابتكارِ معادلةٍ جديدةٍ: نفطُنا مقابلَ مائهم!
لا لأنَّ الدولةَ تريدُ ذلك، بل لأنها عجزَتْ سنواتٍ عن استحصال حقِها من الأنهارِ المشتركةِ، وعجزَتْ قبلها عن إدارةِ مواردها الداخليةِ، ولا تزالُ عاجزةً.. تراجعَ الماءُ وبقي النفطُ، وبأي معنى؟! لعلّنا قد نضطرُ إلى دفعِ النفط ثمناً للماءِ.. وما الغريبُ في أرضِ الغرابةِ؟!
في آخرِ الحَفْرِ، لا يبقى للإنسانِ سوى الوقوفِ حائراً على حافةِ هوّةٍ جديدةٍ.. حفرةٌ تُسمّى ثروةً، وأخرى تُدعى نجاةً، وثالثةٌ قبريةٌ تبتلعُ الحافرين. ومع ذلك، يستمرُّ الإنسانُ في الحفر، لا لأنه يأمل خيراً، بل لأنه لا يجد معنى في التوقفِ. فالسطحُ بلا جوابٍ، والعمقُ بلا وعدٍ، والفراغُ، في الحفرِ كلِه، هو الحقيقةُ الوحيدةُ الناصعةُ على ما يبدو!