اخر الاخبار

باتت مساحات الترفيه للشباب والأطفال تقتصر على صالات الألعاب الإلكترونية والمولات، التي ارتفعت أسعارها بشكل جعل الاستمتاع بها حكراً على فئة محدودة من المجتمع. هذا الواقع يعكس أزمة اقتصادية واجتماعية؛ حيث يجد الشباب والأسر أنفسهم أمام خيارات محدودة وباهظة الثمن لممارسة أي نشاط ترفيهي أو رياضي، بينما تندر البدائل العامة والمنخفضة التكلفة.

أزمة اجتماعية واقتصادية

يقول ياسر مؤيد، طالب جامعي، إن واقع الترفيه في بغداد أصبح مأساوياً. ويصف الوضع بأنه "أزمة اجتماعية واقتصادية في وقت واحد".

 ويضيف مؤيد في حديث لـ "طريق الشعب"، بالقول انه "قبل خمس سنوات، كانت هناك مساحات رياضية وترفيهية متاحة بأسعار معقولة. اليوم، الوضع تغير بالكامل. صالات الألعاب الإلكترونية والمولات أصبحت مراكز استثمارية بامتياز".

ويشير إلى أن المطاعم الموجودة في المولات ترفع الأسعار بشكل يفوق دخل الأسرة متوسطة الحال، ما يجعل زيارة أي مكان ترفيهي للطفل أو للشباب "مكلفة ماليا" للعائلات، مؤكدا ان "الأمر لا يتعلق بالترفيه فحسب، بل بالصحة النفسية والاجتماعية. الأطفال والشباب بحاجة لممارسة نشاط بدني وذهني، لكن الفوضى التجارية وارتفاع الأسعار تجعلهم محاصرين بين شاشات الأجهزة الإلكترونية، أو البحث عن بدائل غير آمنة أو مقرصنة".

ويرى ان "العاصمة اليوم ممتلئة بالمطاعم، الصالات، ومراكز الألعاب، ولا توجد مساحات عامة حقيقية للرياضة أو الترفيه منخفضة التكلفة. الشباب والأطفال الذين يذهبون مع أهاليهم للترفيه أو التسوق يجدون أنفسهم أمام خيارات محدودة وباهظة الثمن، ما يخلق شعوراً بالإحباط والتهميش، ويزيد من الفجوة الاجتماعية بين من يستطيع الدفع ومن لا يستطيع".

ويبين ان "الأثر يتجاوز الترفيه. بعض الطلاب بدأوا يهملون الدوام المدرسي أو يهربون من المدارس خلال ساعات الدراسة للذهاب إلى صالات الألعاب الإلكترونية، لأن الترفيه أصبح أسهل من الالتزام بالواجبات اليومية، خاصة في ظل غياب الرقابة الأسرية والدروس الترفيهية. هذا يخلق جيلا قد يتعرض لمشاكل اجتماعية واقتصادية مستقبلاً، ويجعل الوقت الذي يجب أن يُستثمر في التعليم والنشاط الصحي يُستهلك في الترفيه المكلف وغير المنظم".

ويختتم مؤيد حديثه بدعوة الجهات الرسمية والخاصة، أنّ "الترفيه يجب أن يكون حقاً متاحاً للجميع، وليس سلعة باهظة الثمن. هناك حاجة إلى تنظيم الأسعار، وتوفير بدائل منخفضة التكلفة، وزيادة المساحات الرياضية والترفيهية المجانية، خصوصاً في المناطق المزدحمة، كي يتمكن الشباب والأطفال من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي وصحي، بعيداً عن الاستغلال التجاري والفوضى".

ترفيه مكلف

تقول الباحثة الاجتماعية بلقيس الزاملي، إنّ انتشار الألعاب الإلكترونية بين الشباب أصبح ظاهرة واسعة، لكن ارتفاع أسعار الاشتراكات والأجهزة خلق فجوة واضحة في إمكانية وصول الشباب لهذا النوع من الترفيه.

وتضيف الزاملي في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن الكثير من الشباب يلجؤون للألعاب الإلكترونية كمتنفس من ضغوط الدراسة والعمل والحياة اليومية، لكنها أصبحت اليوم "ترفيها مكلفا" مع ارتفاع أسعار بطاقات الشحن، الاشتراكات الشهرية، والأجهزة نفسها.

وتشير الى ان "الترفيه لم يعد خياراً سهلاً. شباب كثير يلجؤون للألعاب للهرب من الضغط، لكن الأسعار الحالية تجعل جزءاً منهم خارج هذا العالم، رغم أنه يشكل مساحة التواصل الأبرز بينهم"، معتقدة أن هذا الوضع خلق تفاوتاً اجتماعياً جديداً بين من يمتلك القدرة على شراء أجهزة حديثة أو الاشتراك في ألعاب ضخمة، وبين من يكتفي بالبدائل الرخيصة أو غير الآمنة، مثل المواقع المقرصنة.

وتتابع ان "هذا الفارق يعزز الإحساس بالتهميش لدى الشباب من ذوي الدخل المحدود، ويضعهم خارج دوائر الترفيه التي تجمع أصدقاءهم"، مشيرة الى أن غياب الرقابة، مع الانتشار السريع للألعاب المدفوعة، أدى إلى ظهور مشاكل مثل الإدمان أو استخدام الأطفال لبطاقات الدفع دون علم الأهل.

وتعتقد الزاملي أن "المشكلة ليست في اللعبة بقدر ما هي في غياب التوازن. السعر المرتفع يدفع البعض للبحث عن بدائل غير آمنة، والتسهيلات الكبيرة داخل الألعاب تغري المراهقين لإنفاق مبالغ كبيرة دون وعي."

وفيما يتعلق بالحلول، تؤكد أن الموضوع يحتاج إلى دور مشترك بين الجهات الرسمية والقطاع الخاص: "من المهم أن تكون هناك عروض مخصصة للطلاب، أو تخفيضات على الاشتراكات، أو دعم حكومي لمراكز ألعاب آمنة وبأسعار مقبولة. الترفيه الإلكتروني أصبح جزءاً من هوية الشباب، ويجب التعامل معه كجزء من الصحة النفسية والاجتماعية وليس كرفاهية ثانوية".

وتلاحظ الزاملي انه في عدد من المناطق، تحصل حالات متكررة لطلاب يتركون مدارسهم، ويتوجهون إلى صالات الألعاب الإلكترونية في أثناء وقت الدوام. هذا السلوك لا يُعد مجرد هرب مؤقت، بل مؤشر خطير على غياب الرقابة الأسرية وضعف الإجراءات التنظيمية حول هذه الأنشطة.

وتشدد على أن وجود هذه الصالات بالقرب من المدارس يشكل بيئة محفزة للهروب من الدروس، إذ تقول: "من الضروري منع انتشار صالات الألعاب الإلكترونية قرب المدارس، لأنها تستغل أوقات الدوام، وتستقبل الطلاب الصغار بشكل يومي، وهو ما أدى إلى تسجيل حالات عدة من هروب الطلبة إلى تلك الأماكن".

كما تعدو الناشطة الحقوقية الجهات المختصة إلى فرض رقابة مشددة على هذه الصالات، خصوصاً من ناحية الفئات العمرية المسموح لها بالدخول، وساعات العمل، والمحتوى الذي يتم تقديمه.

قطاع ترفيهي غير منظّم

الباحث الاقتصادي عبد الله نجم، يقول إنّ انتشار صالات الألعاب الإلكترونية وارتفاع أسعار استخدام الأجهزة داخلها مرتبط بشكل مباشر بتدهور القدرة الشرائية لدى العائلات العراقية، خصوصاً في ظل موجة التضخم وارتفاع كلف التشغيل خلال العامين الأخيرين، مبينا أن "أغلب هذه الصالات تعتمد على أجهزة عالية الكلفة، إضافة إلى فواتير الكهرباء والمولدات، ما يدفع أصحابها لرفع الأسعار، وهي زيادات تنعكس بالكامل على الأطفال والطلاب الذين يشكلون النسبة الأكبر من روادها".

ويضيف نجم قائلاً: "نحن اليوم أمام قطاع ترفيهي غير منظّم اقتصادياً، يعتمد على التسعير المزاجي، وغياب الرقابة جعل بعض الصالات تفرض أسعاراً لا تتناسب إطلاقاً مع مستوى دخول الأسر. هذا خلق فجوة واضحة بين حاجة الأطفال للترفيه، وبين قدرة الأهالي على تغطية نفقات الساعات الطويلة داخل هذه الصالات".

ويرى أن الأزمة لا تقف عند الأسعار، بل تمتد إلى الأثر الاقتصادي على التعليم نفسه، موضحاً "وجود صالات الألعاب قرب المدارس ساهم في زيادة التسرب الدراسي، لأن الطالب يجد صالة الترفيه خياراً أسهل من الالتزام بالدوام، خصوصاً عندما لا تملك العائلة الوقت والقدرة لمتابعة أبنائها بسبب الضغوط الاقتصادية".

ويشير إلى أن استمرار الوضع الحالي قد يخلق أعباء اجتماعية واقتصادية مستقبلية، إذ يميل الأطفال إلى إنفاق جزء كبير من مصروفهم اليومي على اللعب، بدلاً من الاحتياجات الأساسية، ما يجعل الترفيه يتحول إلى عبء مالي بدلاً من أن يكون وسيلة دعم نفسي أو نشاطاً إيجابياً.

ويختتم عبد الله نجم بالقول: الحل يبدأ بتنظيم هذا القطاع، وتحديد سقف أسعار معقول، ومنع الصالات من العمل قرب المدارس، إضافة إلى تعزيز البدائل الترفيهية منخفضة الكلفة. هذه الخطوات ضرورية لتخفيف العبء الاقتصادي على العائلات، وحماية الطلاب من التحول إلى زبائن دائمين لصالات تستهلك وقتهم ودخلهم دون أي مردود تعليمي أو اجتماعي.