في ظل التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده العراق والعالم، تتزايد مخاطر التطفل والاختراق والابتزاز الإلكتروني بوتيرة غير مسبوقة، لتتحول من حالات فردية إلى ظاهرة يومية تهدد خصوصية المواطنين وأمنهم الرقمي.
وبين غياب القوانين الرادعة وضعف الوعي الأمني لدى المستخدمين، يجد كثيرون أنفسهم أمام مخاطر حقيقية تستغلها جهات غير موثوقة عبر أساليب بسيطة لكنها فعالة. وفي الوقت نفسه، يتعاظم دور الأمن السيبراني كأحد أهم التخصصات الحديثة التي باتت الدول والمؤسسات تعتمد عليها لحماية بياناتها وأنظمتها من الهجمات المتزايدة تعقيداً.
جرائم الاحتيال الإلكتروني تتصاعد
وكان نائب مدير الأمن السيبراني في جهاز الأمن الوطني، أحمد جاسم، قد كشف في وقت سابق عن تسجيل أكثر من 3 آلاف حالة احتيال إلكتروني خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، مشيراً الى إن "خسائرها نحو 3 مليارات دينار عراقي، ما يتم الإبلاغ عنه لا يمثل سوى 30 في المائة فقط من حجم الاحتيال والابتزاز الرقمي الموجود على أرض الواقع".
وقال جاسم، أن عمليات الاحتيال والابتزاز الإلكتروني كانت في السابق تمثل أحد مصادر تمويل الإرهاب، مؤكداً أن معالجة هذه القضايا لا تزال تواجه عقبات قانونية، أبرزها أن الدستور يمنع تقديم معلومات عن الحسابات المصرفية إلا عبر موافقات قضائية، الأمر الذي يؤدي إلى إبطاء عملية التحقيق.
الخصوصية معرضة لمخاطر كبيرة
من جهته، يقول مصطفى الموسوي، مختص في الأمن السيبراني، أن التطفل الرقمي في العراق شهد خلال السنوات الأخيرة زيادة واضحة جداً، وأصبح أمراً يُسمع عنه بشكل شبه يومي سواء من خلال اختراق حسابات المستخدمين أو تسريب صورهم أو محاولات الابتزاز. ويعود هذا الانتشار السريع جزئياً إلى انتشار الهواتف الذكية وضعف الوعي الأمني لدى فئات واسعة من المواطنين، ما ساهم في تضخيم المشكلة.
ويضيف الموسوي في حديث لـ "طريق الشعب"، أن أساليب المتطفلين في الوقت الحالي بسيطة لكنها فعالة، وتشمل استخدام روابط مزيفة وصفحات تسجيل دخول وهمية وسرقة كود التفعيل، فضلاً عن تنزيل تطبيقات غير موثوقة تحتوي على برامج تجسس، واستخدام شبكات "واي فاي" عامة غير آمنة، وهذه الأساليب تستغل التسرع وقلة الانتباه لدى المستخدمين.
ويشير الموسوي إلى غياب قانون واضح لحماية بيانات المواطنين، ما يجعل الخصوصية معرضة للخطر، حيث يمكن لأي جهة جمع معلومات الأشخاص بدون قواعد صارمة، وهو ما يسهل عملية بيع البيانات وتسريبها واستغلالها، ويؤكد أن وجود قانون واضح كان سيحد كثيراً من هذه الفوضى الحالية.
ويبين أن الفئات الأكثر تعرضاً لهذه المخاطر هي النساء والمراهقون بسبب حساسية المجتمع، إضافة إلى المؤثرين وأصحاب الصفحات الناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن اختراق حساباتهم يعطي قيمة أعلى للمخترق، كما أن ضعف الثقافة الرقمية عند فئات واسعة من المستخدمين يجعل عملية الابتزاز أسهل بكثير.
ويخلص إلى أن المطلوب اليوم هو أن تشريع الدولة لقانون حماية البيانات وتنظيم عمل شركات الاتصالات والإنترنت، بالإضافة إلى تقوية وحدات مكافحة الابتزاز، بينما يقع على عاتق المواطن تأمين حساباته من خلال استخدام كلمات مرور قوية وتفعيل التحقق بخطوتين، وعدم فتح أي رابط مجهول أو مشاركة رموز التفعيل مع أي شخص، مشيراً إلى أن التصرف الصحيح يبدأ بالوعي وليس بعد وقوع المشكلة.
دور محوري
أما حسين السعيدي، مختص في أمن المعلومات، فيشير إلى أن "الأمن المعلوماتي والأمن السيبراني أصبحا اليوم من أكثر المجالات تطوراً وحساسية، نظراً للدور المحوري الذي يلعبانه في حماية البيانات وصون الأنظمة الرقمية التي باتت جزءاً أساسياً من البنى التحتية للدول والمؤسسات".
ويقول السعيدي، أن التوسع المتزايد في الخدمات الإلكترونية واستخدام الهواتف الذكية والإنترنت جعل التهديدات السيبرانية أكثر تعقيداً وجرأةً، الأمر الذي يجعل هذا التخصص ضرورة لا يمكن تجاهلها.
ويُوضّح السعيدي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن الأمن السيبراني لم يعد مجرد أدوات تستخدم لحماية الأنظمة، بل هو منظومة متكاملة تعتمد على التحليل وإدارة المخاطر والاستجابة الفورية وبناء استراتيجيات وقائي طويلة الأمد.
ويوضح أن هذه المنظومة تشمل حماية البيانات الحساسة، مراقبة الشبكات، كشف محاولات الاختراق مبكراً، والتعامل مع الهجمات الإلكترونية قبل أن تتحول إلى خسائر كارثيةً.
ويؤكد أن التجارب العالمية أثبتت أنّ أي اختراق، مهما بدا بسيطاً، قد يؤدي إلى تعطل مؤسسات حكومية أو مالية، أو تسريب معلومات حساسة يمكن استغلالها بطرق تهدد الأفراد والمجتمعات. ومن هنا ازداد اهتمام الحكومات والقطاع الخاص في العراق والعالم العربي والعالم عموماً بإنشاء أقسام متخصصة بالأمن السيبراني، إلى جانب إطلاق برامج دراسية متقدمة تواكب متطلبات السوق.
المستقبل المهني
وينبه الى أن الجامعات شهدت إقبالاً واسعاً من الطلبة على هذا التخصص، لأسباب عديدة، أبرزها أن الطالب بات يدرك المستقبل المهني الواسع لهذا المجال، وأن الطلب على الخبرات السيبرانية يفوق العرض في كثير من الأحيان، مما يفتح أبواباً وظيفيةً متنوعة ويمنح هذا التخصص مكانة بين أكثر المهن دخلاً واستقراراً.
كما يشير السعيدي إلى أن الجذب نحو هذا التخصص لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط؛ إذ إن الكثير من الطلبة يجدون فيه مجالاً للتفكير التحليلي وخوض تحديات يومية تتطلب الإبداع وسرعة الاستجابة، ما يجعلهم يشعرون بأنهم جزء من مهمة حقيقية تسهم في حماية معلومات مؤسسات وأفراد ومشاريع وطنية.
وفي ختام حديثه، ينوه السعيدي بأنّ التوسع المستمر في هذا المجال يثبت أننا نعيش في عصر يعتمد على الأمن الرقمي بقدر اعتماده على الأمن التقليدي، وأن الاستثمار في تعليم وتدريب كوادر متخصصة بالأمن السيبراني هو استثمار في مستقبل الدول واستقرارها الاقتصادي، مشددًا على أن الأمن السيبراني أصبح اليوم ركناً أساسياً من أركان الأمن الوطني، وأن إقبال الطلبة عليه يعكس وعياً متزايداً بأهميته ودوره في بناء مستقبل آمن ومستقر.