تمتد الدراسات المكرسة لمناقشة مفهوم “الثورة” لأكثر من قرنين ونصف مع استمرارية استخدامه شعبيا او علميا ومجتمعيا ولكن بمعان مختلفة. ففي السياسة مثلا تعني الثورة الإطاحة بنظام قديم استغلالي ليحل محله نظام اخر يحقق مستوى اعلى من المساواة والديمقراطية. ويتجلى بأشكال متعددة حسب المراحل التاريخية وعلى الأخص القوى الاجتماعية المحركة لها وشكل النظام السياسي البديل من دولة وتشريعات. فالثورات الفلاحية المحدودة التي ظهرت في بريطانيا وأوروبا كانت موجهة ضد تحالف الاقطاع مع الكنيسة الذي شكل إعاقة لعملية التطور الاجتماعي المتمثلة بصعود البرجوازية الذي رافق تطور الثورة الصناعية. ولكن من أهمها الثورة الفرنسية في 1789 والتي اطلقت شرارة التنوير وتميزت بإقامة نظام اجتماعي جديد وثقافة بديلة عن تلك التي سادت في ظل الحكم الملكي الفرنسي والتي تميزت بدور العنف فيها الذي كانت حصيلته تغيرا سياسيا جذريا استجابة لضرورات التطور الاقتصادي الاجتماعي.
وأشرت الثورة الروسية في 1917 بداية مرحلة جديدة في مسار الثورات السياسية – الاجتماعية في القرن العشرين الذي رافق صعود الطبقة العاملة والمثقفين الثوريين في أوروبا في القرن التاسع عشر (منهم ماركس وانجلز ولينين) الذين كرسوا جهدا فكريا وعمليا لتحليل ظاهرة “الثورة” بجوانبها الاستراتيجية والتكتيكية، خاصة على صعيد مستلزمات تحويل النشاط العفوي للجماهير ضد الاستغلال والقهر الاقتصادي والسياسي الى ثورة ذات رؤية وبرنامج تغييري جذري يتعدى الاقتصاد والمجتمع الى الانسان ذاته. وكانت الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف ذات القوميات المتعددة والتي شكل الروس فيها اكثر من 40 في المائة و حكمها اقلية من النبلاء الاقطاعيين وملاك الأرض تستعبد الاقنان والفلاحين هي الحلقة الأضعف والمهيئة للتغيير الثوري بسبب ديناميكية التناقضات الاجتماعية كانعكاس للصراع الطبقي القابل للانفجار والنشاط السياسي والتنظيمي الذي قاده كوادر من الثوريين عرفوا قبل مئة عام باسم “البلاشفة” أي الأغلبية داخل الحزب الذين تبنوا الماركسية وقادوا عملية النضال من اجل التغيير الثوري وبهدف بناء عالم جديد لا مكان فيه للاستغلال. واستفادت الثورة من دروس انتفاضة 1905 الروسية لتحقق الانتقال من المطالبة بإصلاحات اقتصادية الى العمل من اجل الإطاحة بالقيصرية وأقامه نظام سياسي نوعي لصالح العمال والفلاحيين وتحقيق مجتمع العدالة و المساواة الاشتراكي.
وخلال سنوات الاعداد لثورة أكتوبر فكريا وتنظيميا تبلورت مفاهيم في مجال تكتيكات العمل الثوري حول ماذا يعني الوضع الثوري وماهي مميزاته وخصائصه وسبل تطويره الى ثورة عبر إنضاج العامل الذاتي في رفع وعي واستعداد الجماهير من عمال وفلاحين وحلفائهما للمشاركة في التغيير. وهذا هو احد أسباب ندرة الثورات وفشل بعضها كما حدث في حالة المد الثوري والانتفاضات الأوروبية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى نتيجة الفجوة بين نضج العامل الموضوعي ووعي الجماهير ذات المصلحة في الثورة والذي لا يتحقق عفويا بل يتطلب جهدا تنظيميا ودعائيا وتحريضيا وثقافيا مدعوما بسياسة ناجحة من التحالفات السياسية والطبقية لتحويله الى وضع ثوري. ومن تجربة الثورة الروسية والانتفاضات الجماهيرية التي شهدتها بلدان التحرر الوطني تطورت مفاهيم وفن الانتفاضة ومتطلبات تطويرها الى ثورة، والتي تميز بين مكونات الانتفاضة من النشاطات الجماهيرية المعادية للسلطة، وهي غالبا ما تكون غير قانونية، وتشخيص متطلبات حشدها وتحديد واضح للأهداف في كل مرحلة من مراحل الانتفاضة وسبل تطويرها بما يخدم الرؤية الاستراتيجية. وهي مرحلة تبديل السلطة مدعومة بتحالفات سياسية و طبقية وما تتطلبه من اليات التنظيم الحزبي واشكال النضال المتاحة (اقتصادي وسياسي فكري).
وهناك آراء أخرى ترى أيضا ان القرن الحادي والعشرين الذي تعمقت فيه سمات عولمة الرأسمال واتساع النشاطات الجماهيرية عالميا من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان قد فتح أفقا للتغيير الثوري لم يكن ممكنا سابقا عبر صناديق الانتخابات، وهو ما يتطلب رؤية جديدة للممارسة الانتخابية كعملية ثورية تستفيد من دروس الثورات لانتزاع ودمقرطة السلطة وتغيير محتواها جذريا عبر عملية وصيرورة نضالية متواصلة ومستمرة.
وقد تميزت تجربة أكتوبر بحيوية الصراع الفكري الداخلي الذي رافق مهمة التحضير للثورة و لذي رسم مسارها في خضم نقاشات وتقاطعات في الرؤي بين القيادات والكوادر الحزبية البلشفية. وكان احدها مثلا حول السماح للحكومة المؤقتة التي قادها كيرنيسكي منذ شباط 1917 بأخذ دورها لتوجيه عملية تطور البناء الرأسمالي ومساعدة نمو الطبقة البرجوازية في روسيا في اطار نظام ديمقراطي دستوري على الطراز الأوربي مع تعريز دور الدوما (البرلمان الروسي) وانضاج القاعدة الاجتماعية للثورة الاشتراكية اللاحقة بينما نظرت اليها الأغلبية في داخل البلاشفة كتفسير ميكانيكي لعملية الانتقال لا يأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات المجتمع الروسي وتطور العملية الثورية وانعكاساتها على توازن القوى ودور الحزب القيادي وان الخيار الوحيد هو ثورة شعبية ظافرة تبني الطريق الروسي نحو الاشتراكية.
وقد واجهت الحكومة السوفيتية الفتية تحديات داخلية وخارجية وتصاعد في النشاطات المعادية والتخريبية قادتها القوى الرجعية الموالية للنظام القديم وبدعم خارجي إمبريالي وصلت الى مستوى حرب أهلية دموية ومن ثم شن حرب كونية ثانية تركت اثارها السلبية على تطور عملية البناء الاشتراكي في روسيا. واتخذ الدعم الامبريالي لقوى الثورة المضادة اشكالا مختلفة وأيضا على صعيد الجبهة الفكرية والإعلامية. وكان احد اشكالها شيطنة ثورة أكتوبر كعملية انقلابية قادها شلة من الثوريين المحترفين ضد الشرعية البرلمانية، وان النتيجة قيام نظام شمولي مماثل للنظام النازي في المانيا. ولتنظيم هذه الحملة الفكرية و النفسية تم تجنيد
مؤسسات اكاديمية و إعلامية في الغرب وأمريكا بشكل خاص وبتمويل سخي وصلت تأثيراته الى البلدان العربية، وأصبحت احد أدوات ترسانة معاداة الشيوعية من قبل العديد من الأنظمة العربية القمعية ومنها في العراق. كما حاولت هذه الحملة المعادية للشيوعية الخلط بين نجاح ثورة أكتوبر والفشل في عملية بناء الاتحاد السوفيتي أدت الى انهيارها في 1990.
و مما اضعف الاستفادة من التراث الماركسي عربيا ومن ذلك دروس واستنتاجات ثورة أكتوبر هو حالة النكوص واهتزاز الوعي التي رافقت انهيار منظومة بلدان الاشتراكية القائمة وأيضا الضغط الفكري الذي مارسته دوائر الاعلام والحرب النفسية الغربية كامتداد لسياسة الحرب الباردة بهدف تصفية الاشتراكية كفكر بعد ان انهتها كنظام. وقد رافق ذلك حالة من الخضوع الفكري لما بشرت بها الدوائر الامبريالية حول نهاية التاريخ وافضلية الفكر النيوليبرالي البرجوازي وانكار حقيقة وجود قوانين موضوعية تتحكم بتطور المجتمعات والتمييز بين القوانين الطبيعية والاجتماعية. واصبحوا نموذجا جديدا يضاف الى سجل التخلف الثقافي العربي تميز بالتسطيح الفكري والبراغماتية مقابل ذلك كان الاتجاه الرئيسي السائد هو اخضاع تجربة البناء الاشتراكي ومنها ثورة أكتوبر الى الدراسة و التحليل النقدي واستخدام المقاربة الديالكتيكية التي ترى في الثورة والنضال من اجل الاشتراكية عملا متصلا ذا بعد تاريخي يرفض الجمود الفكري، وان احد اشكال النضال هو العمل من اجل تجديد حقيقي وفعلي للماركسية نظرية وممارسة في ظروف القرن الحادي والعشرين التي تميزت بالتقدم العلمي والتكنولوجي غير المسبوق الذي يترك اثاره نتيجة العلاقة العضوية بين العلم وعملية انتاج الخيرات المادية على طبيعة وجوهر العلاقات الإنتاجية في اطار التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية التي سادت العالم، ومنها ما سيرافقها من متغيرات مجتمعية وازدياد التناقض الطبقي وتركز الثروة لدى الاقلية وما سيتطابق معها من بنية فوقية على صعيد الدولة والنظام السياسي والقيم الروحية والإنسانية وصولا الى حضارة إنسانية أرقى تسودها الحياة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.