اخر الاخبار

أجد في عبارة المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي الداعية إلى «تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل»، بمثابة حكمة تصحّ أن يجعل منها المرء شعاراً في حياته ودليلاً، كما أجد في المفردة العربية «المتشائل»، التي اجترحها الأديب الفلسطيني الراحل إيميل حبيبي تكثيفاً بليغاً ودالاً لعبارة غرامشي، حتى لو لم يقصد حبيبي ذلك، حين أدرج هذه المفردة في عنوان روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، فبطل الرواية جامع للنقيضين فهو سعيد وهو أبو النحس، وهو جامع للتفاؤل والتشاؤم أيضاً: «متشائل».

نحن أمام دراسة حديثة تحلل العلاقة بين التفاؤل والقدرات المعرفية، وتكاد تخلص إلى أن شديدي التفاؤل هم في الغالب محدودو المعارف، ومع أن الدراسة لا تشير إلى أن التفاؤل أمر سيئ بطبيعته أو أن جميع الأفراد المتفائلين لديهم قدرات معرفية أقل، لكنها، مع ذلك، تسلط الضوء على العيوب المحتملة للتفاؤل المفرط والحاجة إلى اتباع نهج متوازن في التفكير، كأن واضعي الدراسة يريدون القول إن التفاؤل سمة قيّمة في العديد من جوانب الحياة، حيث يوفر الدافع والمرونة والعقلية الإيجابية، لكنه لا يكفي إن لم يقترن «بتنمية مهارات التفكير النقدي والانخراط في تقييمات واقعية للمواقف».

وبني هذا الاستنتاج على ما وجدوه من علاقة بين المستويات العالية من التفاؤل وانخفاض المعرفة، بعد أن أجروا تجارب على عينة كبيرة من الناس، مراعين عدة عوامل مثل العمر والتعليم والحالة الاجتماعية والاقتصادية، كشفت لهم أن الذين سجلوا درجات أعلى في مقاييس التفاؤل يميلون إلى الأداء بشكل أسوأ في الاختبارات المعرفية، ما يجعلهم أقل قدرة على تبين مصاعب الحياة وتعقيداتها المختلفة، فيصبح تفاؤلهم ساذجاً، في حين أن أولئك الذين يتمتعون بقدرات معرفية عالية يميلون إلى أن يكونوا أكثر واقعية وتشاؤماً في توقعاتهم بشأن المستقبل.

لعلها مناسبة لنستعيد وصف جان بول سارتر للمثقف ب «الضمير الشقي»، الذي يقوم بمهام لم يكلفه بها أحد. وإن بدا هذا القول في الظاهر سخرية من المثقفين ودورهم، فإنه في الجوهر أميل إلى الشفقة على هذه الفئة المبتلاة من البشر، لأنها تبصر من المشاكل ما لا يبصره سواها، أما كيف يكون المثقف ضميراً شقياً فذاك ما نجد توضيحاً له في عبارة ديستوفسكي في كتابه «ملاحظات من العالم السفلي»، وهو يفرق بين نمطين من البشر، نمط يتأمل ونمط يفعل. يقول ديستوفسكي: «أقسم يا سادة أن شدة الوعي مرض، ومن يستطيع أن يفخر بمرضه؟ هل تعرفون، يا سادة، ربما أعتبر نفسي إنساناً ذكياً فقط، لأنني لم أتمكن طيلة حياتي أن أبدأ أو أكمل أي شيء».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الخليج” – 4 كانون الأول 2023

عرض مقالات: