لم يكن المجتمع العراقي على درجة من التطور يوازي التطور الحاصل لدى الكثير من دول العالم، ليست الدول الاوربية فحسب وانما حتى دول الشرق الاوسط مثل لبنان و مصر. فعندما أفلت شمس الامبراطورية العثمانية، بزغت شمس الحرية على العراق وبانت الافات التي كانت تنخر الجسد العراقي، وهي الثالوث المعروف : الفقر والجهل والمرض .
وجاء الاحتلال البريطاني واستولى على البلاد المنهكة، فعالجها وفقا لمصالحه، شـيـد الجسور والطرق التي تسهل تجارته مع الهند، وأسس عددا قليلا من المدارس التي تضمن له كوادر وسطية في خدمة إدارته، وافتتح بعض المستشفيات التي تفتقر إلى الأدوية ولا تفي بحاجة البلاد ولا تستطيع مواجهة الأمراض المتوطنة التي ظل المواطن يعاني منها.
اما الجيش والشرطة فكانت قطعات هزيلة، وتم فرض التجنيد الالزامي على المواطنين برواتب وأجور زهيدة ما جعل الجندي عالة على أسرته والشرطي معتمدا على الرشوة، حتى شاعت أهزوجة:) عبّر وأشرك للشرطي (. والواشر كناية عن الدرهم.
في خضم النضال ضد الاستعمار البريطاني الذي كتم أنفاس الشعب العراقي، حدثت انتفاضات واحتجاجات كانت السبب في تشكيل أحزاب لها رؤية وطنية تحاول البحث عن سبيل للمساهمة في حكم البلاد من خلال البرلمان، لكن رجل الانجليز الأول رئيس الوزراء المهيمن على الحكم كان لا يسمح بوصول من يختارهم الشعب إلى سدة البرلمان، وان استطاعت القوى السياسية الوطنية الفوز بنسبة من المقاعد، كان البلاط يأمر بحل البرلمان ويأتي بوزير جديد يعمل على تشكيل برلمان جديد ولا يقبل أسماء وطنية تعمل بعيدا عن وصاية الانجليز ومعاهداتهم الجائرة .
من بين تلك الاحزاب كان الحزب الشيوعي العراقي الذي تبلور مساره منذ اوائل الثلاثينيات وتأسس عام 1934 م. ومنذ تأسيسه اعتمد (ح ش ع) على نخبة عالية الثقافة تدير عجلة إعلامه في صراع مع السلطة الحاكمة بأمر سيدها البريطاني وكشف ومناهضة المعاهدات الجائرة مثل معاهدة بورت سموث، ونشر ثقافة تقدمية غير معهودة، تعالج أوجه التخلف الاجتماعي الذي ورثه العراق من حقبة الهيمنة العثمانية. وكان لمؤسسه الشهيد يوسف سلمان (فهد) اليد العليا في رفد صحافة الحزب وأدبياته بما يثير النقاش في الساحة السياسية المضطربة، ويهدد ركائز السلطة الهشة، ما جعل النظام الملكي يسرع في إعدامه مع رفاقه عام 1949.
ظلت البلاد حافلة بالانتفاضات، مثل انتفاضة الوثبة 1948 وانتفاضة 1952 وانتفاضة الحي 1956 التي أعدم فيها الشهيد علي والشهيد عطا الدباس، بالإضافة إلى انقلاب بكر صدقي وانقلاب العقداء الأربعة وانقلاب رشيد عالي الكيلاني وصولا إلى ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة.
كانت صحافة الحزب وأدبياته مدرسة جادة خرج من عباءتها أعلام الثقافة، وتمرست فيها أسماء سطع نجمها في سماء البلاد مثل الشهيد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وشمران الياسري (ابو كاطع) والمفكر الراحل هادي العلوي، والشاعر بدر شاكر السياب وسعدي يوسف وغيرهم كثير.
وكان لي شرف المساهمة في صحافة الحزب الشيوعي، وأول موضوع نشر لي دون ذكر اسمي بسبب هيمنة حزب البعث، كان اوئل السبعينيات، وهو تحقيق صحفي - ريبورتاج - نشر في صحيفة طريق الشعب، طبعا حررت الجريدة المقال بشكل يتناسب مع سياسة النشر- وكان عن وضع العمال في مؤسسة الكهرباء، ومعاناتهم بسبب النقل والبيروقراطية. أثار الموضوع بلبلة وسط مؤسسة الكهرباء في محاولة لمعرفة ناشر المقال .
وبعد خروجي من الوطن عام 1979، وتنقلي بين بلدان عدة، كانت أدبيات الحزب المدرسة التي فتحت لي باب النشر وتعلمت منها الكثير، فواظبت على رفد رسالة العراق - لندن - ومجلة الثقافة الجديدة - عراق، سورية - وصحيفة طريق الشعب بالمقالات والدراسات والمواضيع الأدبية المختلفة. وكان للاستاذ الراحل غانم حمدون، رئيس مجلس الثقافة الجديدة، الذي زاملته في الجزائر اواسط الثمانينيات تأثيره في فسح المجال واعطاء الكاتب حرية كبيرة في نشر أفكاره رغم النقد الحاد أحيانا في بعض المقالات.
كانت الدراسات التي تنشر في مجلة الثقافة الجديدة مادة دسمة لتنمية الاتجاهات العلمية في الحياة الثقافية والسياسية، وطالما نشرت المجلة دراسات لأعلام الاساتذة في العلوم الاقتصادية مثل إبراهيم كبة وفي التاريخ والاجتماع وغيرها مثل دراسات الدكتور صلاح خالص والدكتور الشهيد صفاء الحافظ والدكتور فيصل السامر الذي أحدث ضجة كبيرة في كتابه ثورة الزنج. وكذلك المواضيع التي كان ينشرها السياسي الكبير عامر عبد الله وقصائد ونقاشات أعلام الشعر مثل عريان السيد خلف وسعدي يوسف والجواهري والبياتي وزاهد محمد و العديد من الرموز ما لا يمكن تعدادهم هنا .
بعد سقوط سلطة الطاغية صدام عام 2003، برز دور صحافة وادبيات الحزب الشيوعي العراقي في صياغة وعي ديمقراطي جديد يناهض المحاصصة والطائفية وقدمت كوادر الحزب التي تسنمت مناصب عليا، وان كانت محدودة، مثالا في النزاهة والاخلاص للوطن والشعب.
وستبقى صحافة وادبيات الحزب الشيوعي العراقي نبراسا للقوى الوطنية تنير الدرب من أجل وطن حرٌ وشعب سعيد .