اخر الاخبار

بعد مرور 100 عام على وصول موسوليني إلى السلطة وما يقارب ذلك على وصول صاحبه هتلر، يقاتل الفاشيون والنازيون الجدد لتكرار المأساة البشرية من جديد، والتي كان من أبرز معالمها مقتل 52 مليون إنسان وجرح وإعاقة أعداد أكبر وتدمير مدن كاملة وإعادة التطور الحضاري لسنين طويلة إلى الوراء. فهل تعني هيمنة هؤلاء على الحكم في بلدانهم، شعوب تلك البلدان وحدها، أم هي مؤشر خطير على مستقبل مقلق ومخيف للبشرية كلها، لاسيما إذا ما تواصل هذا "الغزو" في سيناريو مشابه لما جرى في العقود الأولى من القرن الماضي؟ سؤال يكاد يطغي على حوارات الناس واليساريين منهم بشكل خاص، في ظل تنامي شعبية 53 حركة وحزب فاشي في 15 دولة أوربية حتى الآن.

في إيطاليا

شهدت إيطاليا خلال عامي 1919 و 1920، الذين عُرفا بالعامين الأحمرين، أزمة اجتماعية حادة، جراء ما سببته الحرب العالمية الأولى من مجاعة وتضخم وتدنِ في مستويات المعيشة. وأطلقت هذه الأزمة تباشير الثورة في موجة من النضالات العمالية والإستيلاء على المصانع والقيام بإدارتها، مما ألقى الرعب في قلوب الرأسماليين، ودفعهم لدعم الحزب الوطني الفاشي، بقيادة بنيتو موسوليني، وشنّ حملة عنف وحشية ضد اليسار والبروليتاريا وعموم الكادحين.

وكان حزب موسوليني قد تأسس قبلها، استجابة لجزع الرأسماليين الصغار والحرفيين وأغنياء الفلاحين من آثار الأزمة، وخشيتهم على مصالحهم الطبقية من انتصارات الطبقة العاملة، وأنشأ لنفسه ذراعاً عسكرية (أصحاب القمصان السوداء)، وتلقى دعماً شاملاً من الرأسمالية، واستفاد من فشل تكتيكات اليسار حينها في تعبئة قطاعات من العمال والفلاحين والعاطلين عن العمل. 

وفي عام 1922، احتل 20 ألف من مسلحي هذا الحزب مدينة بولونيا، التي كانت معقلًا سابقًا للنضال العمالي، وسحقوا بوحشية الإضراب العام الذي شهدته المدينة احتجاجاً على وجودهم، وهاجموا فروع النقابات في جميع أنحاء إيطاليا، ثم قاموا بمسيرة إلى روما للاستيلاء بالقوة على السلطة وتعيين موسوليني رئيساً للوزراء. وبعد عامين زوروا الانتخابات ففازوا بالترهيب وأقاموا دكتاتورية سقطت بدخول الجيش الأحمر إلى روما العام 1944.

وفيما دعم الليبراليون حينها حكومة موسوليني واكتفى نواب الوسط بتعليق عضويتهم في البرلمان مشترطين على الملك إقالة موسوليني قبل أن يعودوا لمقاعدهم، شن الشيوعيون والإشتراكيون مقاومة عنيفة، أغتيل على إثرها أحد قادتهم جياكومو ماتيوتي، وألقي بالأخرين وفي مقدمتهم انطونيو غرامشي في السجن، ليموتوا فيه.

أحفاد موسوليني

في عام 2012، قام بينيتو لا روسا، وهو أبن سكرتير الحزب الوطني الفاشي القديم، وبالتعاون مع جيورجيا ميلوني، رئيسة الحكومة حالياً، بتأسيس حزب "أخوة ايطاليا"، معتبرين اياه الوريث الشرعي لحزب موسوليني، دون أن يفصحوا عن ذلك رسمياً، ربما بسبب مخالفته للدستور، رغم أن وثائقهم وسياساتهم والكثير من تصرفاتهم تدل على ذلك بوضوح، فهم يتبنون ذات الأفكار اليمينية القومية المتطرفة، ويعرضون آثار موسوليني ويمجّدوها، ويؤدون التحية الفاشية التي عُرف بها في مناسباتهم، ويعتمد حزبهم على بقايا حركة  MSI (موسوليني: أنت خالد)، ويتعاملون بقوة، وبأسماء مختلفة مع حكومات اليمين، التي ساعدتهم ليتمددوا ويستولوا على السلطة، خاصة حكومات قطب الإعلام برلسكوني المتعاقبة، التي لعبت دوراً خطيراً في مناهضة الشيوعية وفي التأهيل الأيديولوجي للفاشية، وأزالت الحرج عن مدح موسوليني، الذي وصفه برلسكوني يوماً بأعظم رجل عرفته ايطاليا، وبأنه فعل أشياءَ جيدة للبلاد.

كما ساهم في نمو شعبيتهم، التضليل الذي مارسته كل القوى الفاشية في إخفاء حقيقتها، خاصة حين راحت تغير أسماءها او تعتني بانتقاء مفرداتها عند العودة للتاريخ. لقد تمكنت ميلوني من تقديم نفسها على أنها ممثلة للإيطاليين الحقيقيين، ولا علاقة لها بالفاشية، في وقت تعلن فيه صراحة بأن الخطر الذي يهدد ايطاليا يتمثل باليسار والنقابات والإسلام الراديكالي، وأنها نذرت نفسها لاستعادة مجد إيطاليا. كما تعمل ميلوني على تغيير النظام السياسي لنظام رئاسي، يُنتخب فيه الرئيس من قبل الشعب مباشرة ويُمنح صلاحيات هائلة، وعلى استخدام البرلمان لشرعنة سياساتها، بعد تحويله لسوق مقايضات، تُشترى فيه أصوات المعارضين مقابل منصب أو شيء من أموال الأتحاد الأوربي، الذي لا زال دهانقة اليمين المهيمن عليه، يرون في "أخوة ايطاليا"، مجرد بلطجية عنصريين، يمكن تدجين المعتدلين منهم والتخلص من المستهترين.

وفي فرنسا

قام ممثل الليبرالية الجديدة، الرئيس إيمانويل ماكرون، بتجاهل الفوز الانتخابي الذي حققه تحالف اليسار، وكلّف ممثل اليمين الجمهوري ميشيل بارنييه، الذي احتل المركز الرابع والأخير في الانتخابات، بتشكيل الحكومة، في قرار يمكن وصفه بالاستبدادي وغير الليبرالي والمناقض للديمقراطية.

ويشكّل هذا القرار بكل بساطة، إنعاشاً للمواقف المتوحشة والمتأصلة منذ عقود في سلطة رأس المال ودكتاتوريته الطبقية، ضد التطلعات اليسارية للفرنسيين، لاسيما بعيد وصول اليسار للسلطة في الثمانينيات، مؤكداً على ما كشفت عنه قبل فترة، دراسة استقصائية مهمة، نشرتها صحيفة لوموند الفرنسية الليبرالية النزعة، والتي فضحت عمق وقوة نفوذ المجاميع العنصرية في مؤسسات الحكم وقوى الأمن. لقد بات معروفاً بأن معظم رجال الدرك الذين صوتوا للفاشية الجديدة في انتخابات العام 2017، قاموا وبأمر من ماكرون، بمعاملة أصحاب الستر الصفراء المطالبين بتعزيز الديمقراطية وتحسين مستوى العدالة الاجتماعية، بوحشية مفرطة.

كما أن "إصلاحات" ماكرون العنيدة لتفكيك إنجازات الرفاه الاجتماعي، وتحايله على الديمقراطية وجهده لتقويضها، تشير إلى نجاح جهود سلطة رأس المال لتحويل التوازن مرة أخرى لصالحها، مبقيةً الباب موارباً أمام التعاون مع حزب التجمع الوطني، ذي التوجهات الفاشية، عند الحاجة.

وتعود جذور هذا الحزب إلى العام 1972، حين أسس جان ماري لوبان الجبهة الوطنية، كحزب يميني متطرف يضم قدامى المحاربين الذين خاضوا حرب الجزائر وبقايا نظام فيشي الذي كان تابعاً للاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية. ولم يتمتع الحزب بأية أهمية تذكر حتى تسعينيات القرن الماضي، حين جرى استبدال لوبان بابنته "المعتدلة" التي أجرت تغييرات شكلية بما فيها اتخاذ اسم جديد، التجمع الوطني، واختيار رئيس جديد للحزب من الشباب (جوردان بارديلا)، والمطالبة بتخفيض الضرائب على الخدمات والشركات، ورفع الحد الأدنى للأجور لأصحاب الدخول المنخفضة، وإيقاف الهجرة، مما ساعده كثيراً على توسيع جماهيريته، حتى صار الفائز الأول في انتخابات البرلمان الأوربي الأخيرة.

وكما هو الحال في إيطاليا برلسكوني، تؤكد تجربة ماكرون على وجود علاقة تكافلية بين الليبرالية الجديدة والفاشية، إذ تخطط حكومته الحالية لتقليل الضرائب على الشركات والمزيد من الهجمات على مكتسبات دولة الرفاه ورفع سن التقاعد وخفض إعانات البطالة وتحميل المهاجرين المسؤولية عن كل مشاكل البلاد.

أحفاد هتلر

وفي المانيا، التي لايزال تاريخها مثقلاً بالمآسي التي سببتها فترة الحكم النازي للبلاد وللبشرية، يحقق حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) وهو مزيج من الفاشيين والعنصريين، تقدماً مضطرداً في الشعبية وفي الفوز بالإنتخابات العامة والمحلية. ويبدو أن التحسينات التي أجراها على برنامجه بعد 2013 وتغيير بعض المتنفذين فيه واستبدال القادة المتشككين في الاتحاد الأوروبي بآخرين موالين للاتحاد والكشف بشكل أوضح عن برنامجه العنصري، قد ساهم في ذلك.

ويضم حزب البديل من أجل ألمانيا نحو 48 ألف عضو، وله 77 نائبًا في البرلمان الفيدرالي، و275 نائبًا في برلمانات الولايات، وهناك 100 نازي يعملون بسببه اليوم كموظفين برلمانيين يطلّعون على مختلف أسرار البلاد. وقد أدى النمو السريع في شعبية هذا الحزب في حدوث استقطاب هائل في المجتمع وسباق بين القوى الفاشية والمناهضة للفاشية، والتي تعتقد بأن حزب البديل من أجل ألمانيا هو الذراع البرلمانية للإرهاب اليميني، والمشجع الرئيسي للنازيين على شن هجمات في الشوارع، في مسعى لتأسيس حركة شارع فاشية، بغض النظر عن مبرر الهجمة أو التحرك. كما يشجع هذا الحزب والحركات الرديفة له عصابات نازية من الشباب، خاصة في القرى، لمهاجمة المختلفين معهم.

وقد بدا هنا جلياً ايضاً، التخادم بين الليبراليين الجدد والنازيين، ففي الوقت الذي يحدد هؤلاء سياسات الليبرالية الجديدة الحاكمة يحصلون بالمقابل على نجاحات انتخابية وهو ما حدث في شرق ألمانيا وفي تورينجيا وساكسونيا.

ومهما كانت مزاعم يسار الوسط الحاكم وشعاراته الإنتخابية، فقد ثبت عجزه عن تخفيف المصاعب الاجتماعية، ولم يجرؤ على زيادة الضرائب على الأغنياء، وأقر برنامجاً لإعادة التسلح بقيمة 100 مليار يورو، بالإضافة إلى الإنفاق العسكري السنوي. كما عمدت حكومته صاغرة لاسترضاء العنصريين من خلال تشديد الإجراءات ضد الأجانب ولجم النقابات العمالية عن التحرك، والتي أصبحت هي أيضاً مرتعاً للنازية الجديدة، حيث صّوت ربع أعضائها لصالح حزب البديل من أجل ألمانيا.

لقد بات معروفاً بأن الشر النازي الجديد، إنما يعتاش على فشل سياسات اليمين التقليدي وافتضاح زيف الوعود التي أعلنها بعد توحيد البلاد من جهة وعلى الأثار الكارثية لما سُميت بالإصلاحات النيوليبرالية التي تبنتها حكومة يسار الوسط الديمقراطية الاجتماعية العام 2010 من جهة أخرى، تلك السياسات التي أدت إلى تراجع التصنيع وزيادة معدلات البطالة والتقليل من مكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي. ولمواجهة ذلك، وجدت الليبرالية الجديدة في القوى العنصرية والنازية الجديدة أداة كفيلة بتقويض المظاهرات العمالية التي خرجت ضد تلك السياسات، مستخدمة اللاجئين كشماعة تحمّلها كل اسباب المشكلة.

و في بريطانيا

نشأت المجاميع الفاشية على يد أوزوالد موزلي 1932، متأثرة بما جرى في إيطاليا وألمانيا، لكنها بقيت ضعيفة وهامشية طيلة القرن الماضي، لتعود للنشاط بقوة قبل سنوات، متمثلة بالحزب القومي ورابطة الدفاع وحزب التغيير وحزب الإستقلال وبريطانيا أولاً وغيرها. وتشير التقديرات إلى أن عدد أعضاء هذه التجمعات قد يصل لعشرات الآلاف، منهم من يعمل في مؤسسات الدولة الحساسة كالجيش والشرطة وأجهزة المخابرات، الأمر الذي دفع بالمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات لتوجيه تحذير يشير إلى أن هذا الإرهاب اليميني المتطرف والمنظم، أخطر بكثير على بريطانيا من الإرهاب "الجهادي".

ورغم أن معظم هؤلاء، الذين صّوت لهم الملايين في الانتخابات، يقفون وراء يافطة معاداة الإسلام والمطالبة بإيقاف الهجرة وترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، فأن التعصب الأعمى للجنس الأبيض وكراهية كل المختلفين، إلى حد المطالبة باستعبادهم وإبادتهم، يعّد القاسم المشترك بين افكارهم.

ويعّد ما حققه حزب الإصلاح ذو النزعات الفاشية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، مفاجأة بكل المقاييس. ويعتبر هذا الحزب، الذي يضم اليوم 80 ألف عضو، الأهم في جبهة قوى الفاشية الجديدة، من خلال فكره العنصري ومتبنياته اليمينية، لاسيما بعد أن أفصح في مؤتمره الأخير عن توجهات واضحة في تبني خطاب الكراهية ورهاب التحول الجنسي والإسلاموفوبيا، ووضع خططاً للتحول لحزب جماهيري ولبناء قاعدة من الناشطين الملتزمين، وكان بارعاً في التضليل.

سمات قديمة جديدة

تكمن خطورة الفاشيين الجدد في أقنعة الاعتدال التي يرتدونها، وحماسة القبول المخادع باللعبة الديمقراطية البرجوازية واهتمامهم ببناء قاعدة انتخابية تجعلهم مقبولين من قبل الليبرالية الجديدة، وسعيهم للظهور مستقلين عن اليمين التقليدي، والإيحاء بأنهم الحل، حين لا يُحسم الصراع الانتخابي بين اليسار وبين قوى هذا اليمين.

غير أن كل قدراتهم على التضليل لا تستطيع أن تُخفي جوهر فكرهم العنصري وإيمانهم بالعنف، وميلهم لبناء ميليشات خاصة بهم، وتمجيدهم لأكثر ما في تاريخ شعوبهم من ظلم وقمع دموي، ودعوتهم لبناء الدولة القوية التي يحكمها "القائد الضرورة"، ومناهضتهم للديمقراطية والحريات، واحتقارهم لكل الشعوب الأخرى ودعوتهم بمختلف الأشكال إلى استعبادها ونهب ثرواتها.

ويستغل الفاشيون الجدد بشكل جيد غضب واستياء الملايين من الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة ومشكلات الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية، واشتداد الفوارق الطبقية والتضحية بمكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي، والآثار المدمرة للمزيد من الخصخصة. ويستثمرون كل وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي (يبلغ عدد متابعيهم عليها عشرات الملايين) للتأثير في الناس، كما يستخدمون الأندية الرياضية والنشاطات المدرسية وينفذون فيها سياسات غير مباشرة تضمن تخفيهم، ساعين لإحداث استقطاب مجتمعي حاد ينفذون من خلاله، دون أن يعيروا أهمية للفترة التي سيأخذها تحقيق ذلك، تماماً كما فعل أسلافهم.

وعلى الصعيد الثقافي، يدرك الفاشيون الجدد أهمية السيطرة على التراث الثقافي الغني لبلادهم وإرغام الناس على البقاء أسرى العصور القديمة، بل ومطاردتهم بأشباحها المخيفة، مستثمرين الانقسام المجتمعي حول قضايا معاصرة ومعقدة لإثارة عواصف من الكراهية والترويج لنظريات المؤامرة والتنصل من بعض المعاهدات الأوربية والادعاء بأنهم هم وحدهم من يمثلون ورثة تاريخ البلاد وحضارتها، وهم وحدهم سدنة معابدها المقدسة.

ولابد من الاعتراف بقدراتهم على التضليل، ففي الوقت الذي تراجعت فيه ميلوني مثلاً عن وصفها الزعيم الفاشي موسوليني كأفضل رجل مر على حكم ايطاليا، قامت شبيبة حزبها، إخوة ايطاليا، بالإحتفال بمولد هذا الدكتاتور وأداء التحية "الرومانية" التي اتخذها النازيون شعاراً لهم، فيما يواصلون التبشير بعظمة الهندسة المعمارية التي استخدمها الفاشيون في إقامة النصب. وفي بريطانيا تنصل حزب الإصلاح من عدد من مرشحيه في الانتخابات لأنهم أدلوا بتصريحات عنصرية، وبدت زعيمة التجمع الوطني الفرنسي صديقة لليهود فطردت والدها من الحزب بسبب معاداته للسامية! كما يستفيد هؤلاء من المشاعر القومية ذات الجوهر المغلق لدى الناس، كأسماء الأشخاص والأحداث، موفرين لها من مساحيق التجميل ما يخفي طبيعتها الاستعمارية او العدوانية او العنصرية.

كيف نوقف الفاشيين؟

سرت في أوساط ليبرالية معتدلة وحتى لدى بعض أطياف اليسار فكرة تقول بأن هذه الأحزاب الفاشية الجديدة، منتخبة ديمقراطياً وبالتالي يجب منحها فرصاً ومناصب تنفيذية وتشريعية، وبأنهم سرعان ما يفشلون ويتضح عجزهم إذا ما تولوا المسؤولية.

ولا تعتبر هذه الفكرة جديدة، إذ سبق وطغت على الحياة السياسية في الثلاثينيات وأثبتت فشلها بقيام الدكتاتوريتين الفاشية والنازية، في انتخابات "ديمقراطية" كانت الأخيرة وأكدت على أن العملية الديمقراطية لا تجعل الفاشيين ديمقراطيين، بل تسمح لهم بتقييد الحقوق المدنية وهتك حقوق الإنسان وتغيير الهياكل الدستورية التي تستند إلى مبادئ الديمقراطية والحرية. كما تساعد هذه الفكرة على تطبيع علاقة المجتمع بهذه القوى المدمرة، وتعرقل نضالات مناهضي الفاشية، التي حققت نجاحات معقولة في الحد من نفوذها.

ولهذا، وفي مواجهة التضليل الذي تمارسه الفاشية الجديدة، لابد من فضح الشوفينية وفكرة التفوق القومي باعتبارهما نتاجاً قذراً للرأسمالية، استخدمته لتبرير سرقة ثروات الشعوب وشن الحروب التوسعية، والتثقفيف بتناقضهما الجوهري مع قيم الحرية والعدالة، وذلك عبر سياسة يسارية واضحة ومعللة فكرياً، لا يتم فيها أيضاً إغفال الحاجة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي أُرتكبت على مدى عقود بحجة التفوق العرقي، وتجريم جميع اشكالها مهما تلونت.

كما لابد من أن نشير إلى وقوع البعض من مناهضي الفاشية في شراكها وتجرعهم سمها المداف بالعسل، عبر قبولهم بازدواجية المعايير وفشلهم في كشف ديماغوجية اليمين الفاشي وقدراته على التكيف وعلى التقدم والتراجع في الوقت المناسب. ومن الأمثلة على ذلك قبول التبريرات بهيمنة "النخبة" على الحياة السياسية والاقتصادية، وعزل المفكرين والعلماء المختلفين، وتبني قوانين تقضم تدريجياً الحريات دفاعاً عن الوطن والحضارة، وتعبئة كل وسائل الإتصال والدعاية لتعميم افكار محددة و "اقناع" الناس بقدسيتها. ولعل ما حدث من صمت الأغلبية تجاه الاجراءات القمعية ضد مناصري الشعب الفلسطيني في اوربا وأمريكا، أو منع عرض بالية بحيرة البجع وروايات دوستويفسكي "احتجاجاً" على حرب بوتين في اوكرانيا، سوى أمثلة على ذلك.

كما لا بد من رصد نقاط ضعف الفاشيين المتمثلة في تهديد السلام وايقاف جهود انقاذ البيئة وتقليص الحريات، والتركيز عليها وفضحها لتعبئة البشرية كلها ضدهم، مع بقاء اليسار بشكل خاص متمسكاً بشعاراته في الحرية والعدالة والسلام والرقابة الشعبية على الاقتصاد والمجتمع والتفكير النقدي بالمعضلات والحلول، إضافة إلى تخلي الوسط ويساره عن دور التابع الأمين لليبرالية الجديدة، والعودة للأقتصاد الصناعي بدلا من الخدمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمزيد من المعلومات يمكن مراجعة:

جريدة الشعلة السويدية  تموز 2020 وأذار 2022، جريدة لوموند الفرنسية تموز 2024، الإندبندنت عربية أب 2020، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات 2019.