لازمتني دائماً، ومنذ آخر مرة كنت فيها في بغداد عام 2012، بل للدقةِ، منذ اضطراري لمغادرتها، والابتعاد عن عملي اليومي الجاد والنشط في صحيفتنا (طريق الشعب)، ربيع عام 2005، بعد أكثر من سنة من العمل والنشاط في تحرير وإخراج الجريدة، وسفرتين بين روما وبغداد. نعم فكرة، ورغبة لازمتاني بالعودة والتواصل مع ما اعتدت عليه طيلة سنوات طويلة مضت قبل عام أحداث 2003. كنت أعمل وأنشط دائماً قريبا من الرفاق وتقديم أقصى ما يمكنني لخدمة قضايا الحزب والوطن بالأساس، والتعجيل بتحقيق الأهداف القريبة حينها، والبعيدة الاستراتيجية، والتي مثلت طموحات وتطلعات شعبنا العراقي المضام دائماً...!!.
ولكن، صدقاً، كنت وفي نفس الوقت، أجد في دواخلي كوابح، أفكار وهواجس، وأحاسيس وتوقعات، جعلت من تحقيق الأمر صعوبة شلت رغبتي وقناعتي على المستويين الفكري والنفسي، هذا غير الوضع المادي الذي واجهته بصعوبة، ارتباطا بحالة اجتماعية صعبة، والتزاماتي في العمل اليومي والمضي في حيلتي الشخصية. ففي إيطاليا لا يمكن ضمان الحد الأدنى من العيش دون العمل، رغم مضي العمر، والعمر... عمري صار عتيا...!
وكان لإصرار، رفيقة دربي، زوجتي على تحقيق ما لم أنجزه طيلة فترات ما بعد عام 2003، وما لم أرغب به، لأسباب تتعلق بموقفي من المؤسسات وطريقة التعامل مع نيل حقوق من أضطر لترك العمل والهجرة بسبب سياسات القمع والملاحقات لنظام الدكتاتورية السابقة. وحالي حال عشرات الآلاف من المعارضين لنظام القمع لصدام حسين، وبينهم حصل الآلاف على ما لم يكن أصلا من ضمن هذه الكتلة من مجتمعنا، والذين حصلوا على امتيازات كبيرة فقط لكونهم منتمين إلى أحزاب الهيمنة الطائفية بعد 2003. نعم عادت وقدمت الطلب بوكالتي لها وثم أعادت إحيائها بعد أن لم أستطع العودة لإجراء اللقاء بسبب وضعي الصعب في إيطاليا. والهدف هو تثبيت والإقرار بكوني مفصولا لأسباب سياسية على أمل الحصول ولو على الحد الأدنى من الحقوق، التي أقرت من قبل السلطات بعد الاحتلال الأميركي للعراق وبدايات تأسيس أسس نظام المحاصصة الطائفية، بدءاً من تشكيل "مجلس الحكم" على هذا الأساس السيء الصيت. وبعد متابعاتها ومراجعاتها المضنية، وصل الأمر ومرة أخرى لنقطة الحسم وهي اللقاء بي وحضوري أمام اللجنة المعنية. واحتراما لجهود زوجتي والعناء الذي عاشته، ولوجود رغبة مكبوتة بلقاء الرفاق والأهل مجدداً، قررت السفر والعودة إلى بغداد.
غادرت إلى بغداد يوم التاسع من شهر آب الماضي (2024)، وأنا أشكك بإمكانية تحقيق الأمر، وحسمه لصالحي. لقناعتي أن القائمين على القضية ينتمون إلى تلك القوى الطائفية المهيمنة، والمعادين أصلا لهويتي الشيوعية....!!.
وبدأت أولى الخطوات، وبمساعدة رفيق صادق ومخلص وأمين لتأريخه النضالي تمكنت من تحقيق اللقاء في وقت قصير. وبالتوازي بدأت معاملاتي للحصول على خلاصة الخدمة، في مديرية تربية الكرخ الثانية. وهنا بدأت رحلة المتاعب البيروقراطية القاتلة.
دخلت إلى بغداد الحبيبة، في صيفٍ حاد في شدة حرارته اللاهبة وفي العاشر من الشهر ذاته. وبدأت رحلتي بإيجابية حيث كان في انتظاري ابن أخي داخل المطار، الذي سهّل أمر الإجراءات الخاصة بالدخول. واستبشرت وأنا أتابع الطريق من المطار وحتى بيت أخي الأصغر في منطقة ليست بعيدة عن مطار بغداد الدولي. وانتقلت في نفس اليوم عصرا إلى بيت الصديق والأخ الذي رفض أي أعذار، تمنع استضافته لي، وهو الرفيق أبو أحلام في الكرادة. وقليل هنا قولة الشكر والشعور بالامتنان. هذا الأمر سهل لي عملية المراجعات خاصة وأن وزارة التربية، وهيئة السجناء السياسيين، ليستا بعيدتين عن البيت. ولا بد من القول إن الرفيق أبو أحلام أكد هنا وفاءه وإخلاصه، لعلاقة احترامٍ، جدية بدأت منذ العام 1981 في بيروت، وشقلاوة والشام، واستمرت ولو عن بعد. وابتهجت بلقائه حيث وفر لي الفرصة للحديث بكل صراحة ووجهاً لوجه عن أوضاع كل منّا عبر زمن مضى، وأوضاع بلادنا والمواقف منها وخلالها، وموقف الحزب الذي جمعنا رفيقين نشطا في مواقع مختلفة. وهكذا توفرت لي فرصة العيش مع زوجتي وقرينة روحي، نهلة في أحضان بغداد، بعد أكثر من 12 عاماً منذ زواجنا عام 2012. وبعد بعاد دام أشهراً.
-
بغداد بين القيظ والغيظ...!!
كان أمر البحث عن سكن ملائم وسط بغداد قد أكد لي واقع الأزمة التي يعاني منها وفيها أبناء وطني، تلك هي أزمة الحصول على سكن مناسب مع الحدود الدنيا للحاجات الإنسانية. أهالني واقع انتشار العمارات العالية في مناطق مختلفة في العاصمة العراقية. فرحت لما تعطيه من سمات الحداثة والجمالية كما هو حال المدن الحديثة في العالم. ولكنني فٌجعت حقا حين استقصيت وعرفت أن شقق هذه العمارات ليست متوفرة للغالبية الساحقة من المواطنين المحتاجة للسكن. فإضافة إلى غلائها حتى وان كانت بالتقسيط، فهي تعبير عن واقع التمايز والفرز الطبقيين. هي سبيل آخر لعمليات غسيل الأموال المنهوبة، أو التي تم جمعها وتوفيرها بطرق غير شرعية...! وهي تكرس مصالح فئات محددة قريبة من نظام المحاصصات الطائفية ومصالح شركات تمضي في مسيرة التركز وتركيز الثروات وسط اتساع واقع الفقر لفئات تتزايد أعدادها في المجتمع.
وأهالني أيضاً حرارة النهار والليل. فعند الخروج فوجئت بشدة الحرارة ولفحات القر الغريب في الشوارع. طبعا عشت طيلة عمري وحتى سن الثلاثين قبل اضطراري للخروج، وكنت في ذهابي للعمل أو لقضاء أوقات للتمشي في شوارع بغداد، السير تحت الشمس كان جو الصيف حاراً ولكن ما عشته هذه المرة كان عجيباً، حتى أنني شبهت الأجواء بـ "الفرن المفتوح" أو الـ "ساونا بلا ماء". وهنا أيضاً تلمست علامة أخرى لواقع التمايز الفئوي- الطبقي، ومعاناة الأغلبية الساحقة من أبناء البلاد الذين لا يتمكنون مادياً من تأجير سيارات التاكسي وتكاليفه ليست قليلة، للاستفادة من التبريد المتوفر داخل السيارات. ولهذا فهم يضطرون لانتظار ما يطلق عليه "الكيّات"، وهي غير مكيفة طبعاً. وعلى المواطن هنا أن يتحمل إلى جانب ذلك زحامات الطرق بشكل مريع. فلا يوجد فروق بين أوقات الخروج. فمنذ الصباح تجد طوابير السيارات وبلا تنظيم وقلة الالتزام بإشارات رجال المرور. وكان يتبادر إلى ذهني، تساؤل " إذا أين تأثيرات المجسرات لحكومة المجسرات ؟؟". الأمر الذي يردده الكثير من المواطنين في السيارات التي استخدمتها للتنقل في سواء في "الكيّات" أم في سيارات الأجرة، وبتهكم في غالب الأحيان...!!.
وهنا لابد من الإشارة إلى انعدام الالتزام القانوني بقواعد السير بل وبالأخلاق سواء في السياقة أوفي تنظيم سير المواطنين، فالأرصفة مرصوصة بالسيارات أو ببائعي البضائع المتنوعة، وعلى المواطن أن يسير بشكل حلزوني والنزول إلى الشارع المزدحم بالسيارات...! وهذه حالة اجتماعية تشير إلى هول ما تراكم سنوات حكم دكتاتورية المقبور صدام، وممارساته القمعية وحروبه، وثم الحصار الظالم الذي دام 12 عاماً، حيث أفرغ المجتمع حقا من قيمه وسمات العراق والعراقيين المعروفة عبر التاريخ. وجاءت حكومات التمثيل الطائفي الزائف بعد عام 2003، للسير على أساس هذا التراكم والمضي في عمليات التفريغ بل وغسيل العقول بتوظيف المعتقدات، تحت واجهات الدين والطائفة.
وهكذا يضاف لمعاناة الناس حالة الشد للأعصاب وانعكاسات الصبر لأوقات غير محسوبة. فالمواطن يريد، بل يطمح لبلوغ مكان عمله أو محل ممارسة مهنته أو حاجاته للتسوق في مناطق بغداد الواسعة....!!.
نعم. صٌدمت وأنا أسير في الشوارع، وفي وسائط النقل بالكثير من الممارسات، والسلوكيات وهي وإن كانت تفصيلية، فهي تعبر عن مستوى الوعي الاجتماعي. وهذا ومع الأسف لمسته في حالة تراجع مخيف عن سنوات مضيتها وسط العائلة والمجتمع طيلة مسيرة حياتي حتى اضطراري للخروج توقيا من ملاحقات أجهزة أمن النظام المقبور، وبلوغ الأمر حد التصفية المعنوية أو الجسدية أواخر السبعينيات من القرن الماضي. بل ولمست الوضع أسوأ مما عايشته بعد عام 2003 وحتى 2005...!
-
دوائر تفصح عن البطالة المقنعة... وتعمق من معاناة المواطن...!!
تكتمل صورة الأوضاع التي يعاني منها وفيها المواطن العراقي وفي بغداد تحديداً، بمعايشة الحال في دوائر ومؤسسات الدولة. ويبدأ المشهد المتعب والمثير للأعصاب بتزاحم المواطنين بدءاً من الدخول إلى الدوائر، حيث عليك أن تقف في صفٍ لتسليم تلفونك لموظفين أو رجال أمن، لتجريدهم من وسيلة ضرورية قد يحتاجونها داخل الدائرة المعنية كالحاجة لمعلومة أو معطى يخدم سير الإجراءات الإدارية ولإنجاز المعاملات. وثم تتوالى خطوات البحث عن المسؤولين ولو لمجرد الحصول على توقيع مدير أو معاون المدير. وليس نادراً أن لا تجد المعني بالأمر لتجواله أو لزيارته زميل في مكاتبهم، وعلى المواطن الصبر والانتظار. وغالباً ما يدخل المواطن ليرى أن في مكتب الوارد أو الصادر أو غرف المعنيين بقسم معين، أن عدد الموظفين كبير لا تستوجبه طبيعة المهام الموكلة بالقسم. وهذا طبعاً يضيف تعقيداً آخر لسير المعاملات وتعباً نفسياً آخر يضاف إلى متاعب الوقت والوسائل لبلوغ الدائرة، أو الوزارة المعنية. وهذا لمسته، على سبيل المثال وليس الحصر في أقسام ودوائر وزارة التربية ومديريات التربية...! كل ذلك وبالطريقة التي يتعامل بها غالبية العاملين، يدفع المرء للشعور بالإهانة والدونية. وهذا أمر يشكل خطورة في نظرة المواطنين وهم مختلفون في الطابع والسلوك...!
طبعا هذا وغيره من الممارسات وانتشار البطالة المقنعة، يشير بل يؤكد نتائج ومسارات نظام المحاصصة الطائفية، فنادرا ترى الرجل أو الشخص المناسب للمكان والدور المناسب.
ليس من الصعب طبعاً، لمس الحالة التي يمر بها ويعايشها المواطنون كل يوم منذ الصباح الباكر وحتى المساء. فتستمع في الشوارع وفي وسائط النقل تعبيرات الغضب واليأس من مسارات الأحداث.. بدءاً من الازدحام غير المفهوم في كل مناطق العاصمة، وفي كثير من الحوارات داخل باصات "الكيات" أو مع سواق سيارات الأجرة (التاكسيات) غير الغضب تظهر كلمات الشتم وفي كثير من الحالات التهكم على مشاريع "المجسرات" وجدواها بعد إنجاز الكثير منها. وحين أقول ملاطفاً، أن السبب "أنكم تنتقدون الواقع وممارسات الحاكمين ولكنكم أنتم من تذهبون وتصوتون لصالحهم"، فيأتي جواب أحدهم وهو كبير في العمر، بأنه واحتجاجاً لم يشارك في التصويت، وهذا حال عشرات الآلاف من المواطنين. وحينها وعندما أشير إلى خطأ هذا الموقف لأنه يسهل نجاح المهيمنين في كل مرة تحصل فيها انتخابات، وهنا أقابل بصمت القبول...!!.
ملامح إيجابية تكبحها سياسات غسيل العقول...!!
كنت أشعر حقاً بالغبطة والارتياح، في ردود فعل المواطنين، حين لجوئي إلى المداعبات الكلامية وربما استخدام جمل التهكم من الأوضاع المأساوية. فهم أما يواجهوني بابتسامة موافقة أو بتأكيد أقوالي بأقوالهم، حتى وهم يمارسون طقوسهم اليومية المعتادة.
كما كنت أشعر بالغبطة وأنا ألاحظ النساء يمضين في حياتهن يمارسن نشاطهن اليومي في العمل وفي الأسواق، وازدياد حالات السفور وارتداء ما يعتبره البعض من قادة وأصحاب غسيل العقول بتوظيفات الدين وتفسيرات زعمائهم البعيدة عن حقيقة تأريخ الدين وعلومه المنطقية. نعم كنت أغتبط وأنا أرى اكتظاظ المطاعم والمقاهي بالعوائل والشابات المتطلعات لممارسة حرياتهم ولو بالحدود الدنيا.
وزاد إحساسي بالغبطة والشعور بالأمل، وأنا أتجول في مناطق أربيل في كردستان العراق، فبغض النظر عن واقع التركيبة السياسية وسياسات الحكم وسيادة احتكار سلطات قوتين حزبيتين، الأمر الذي يصيب نهج بناء الديمقراطية ومؤسساتها الحية، بالخلل. لمست تغييرات جوهرية في بناء المدن وفي توفير الحاجات اليومية، ومنافذ الراحة للمواطنين. ولكن لم تخل أربيل من مظاهر احتكار الامتيازات والمال، الأمر الذي يعمق من التمايزات والفرز الطبقي وشعور المواطنين بالغيظ والغضب من حرمانهم من أجورهم ورواتبهم لأشهر وغلاء المعيشة المتزايد. وهنا المسؤولية مشتركة بين حكومة الإقليم والمركز.
هي ملامح إيجابية حقاً، ولكنها مكبوتة أو تتم في إطارات القمع الاجتماعي ومحاولات نشر الخزعبلات من خلال طقوس لا يقبل بها دين أو أية مفاهيم وقيم إنسانية. رأيت ولمست كيف تجري سياسات وممارسات فرض الحجابات بل أغطية الحجاب السوداء معنويا، على كامل المجتمع، باستغلال دعاوى الإيمان. وفي ذلك استمرار لسياسات النظام البائد قبل عام 2003، حين حاول إدامة سلطة الطاغية بفرض ممارسات أطلق عليه "الحملة الإيمانية" السيئة الصيت....!!.
أختم وأقول إنني ابتهجت بلقاء أصدقاء ورفاق وبقسم هام من أهلي وأجيال منهم لم يسبق لي رؤيتهم، كما أنني شعرت بالغنى في ما يظهر من توجهات لممارسات ذات قيم أخلاقية وإنسانية في المجتمع، وإن كبتتها سيادة مواقف وتعاليم التسطيح والغسيل للعقول، باستغلال تفسيرات للدين والأديان. ولكنني أنهيت زيارتي التي دامت ما يقرب من الشهر، بأحاسيس الألم والأسى من ما وصل إليه واقعنا واستمرار بل وتعمق لحالة غياب أو تغييب الوعي المجتمعي بوجهة الانطلاق في بناء علاقات تتأسس على القيم الإنسانية ومبادئ الديمقراطية، ونحو بناء دولة المواطنة والحقوق المدنية والإنسانية، الأهداف التي قدم شعبنا آلاف الشهداء من أجل بلوغها. نعم أصارحكم بعيدا عن اليأس والتيئيس، أن الأوضاع توصل إلى الشعور بالخيبة وهي تتطلب تكاتف القوى الواعية... قوى المجتمع المدني والتيار الديمقراطي، من أجل نشر الوعي في إطار برامج "لإعادة الروح والوعي" لمجتمعنا العراقي المضام. وكل ذلك يتطلب تضحيات متجددة وسياسات واقعية ولكنها جادة وفاعلة في المجتمع وبعيداً عن كل أشكال ووسائل العنف الذي أصاب شعبنا طيلة عقود منذ أكثر من ستين عاماً، بالوهن والخذلان.
وربما أعود مستقبلاً، لمناقشة ظواهر وأدوار محددة، وخاصة دور المثقف العراقي حاليا والهيئات والمؤسسات الثقافية والحزبية الجادة في وعي وتقديم كل ما يمكن من سياسات وممارسات حيوية لانتشال الواقع العراقي من مأساة النظام الحالي الجائر، نظام المحاصصة الطائفية والمحسوبية، القاتلة لكل سبل الأبداع والفعل في المجتمع....!!!.