منذ تأسيسه عام 1934، لم يكن الحزب الشيوعي العراقي مجرد كيان سياسي يسعى للوصول إلى السلطة عبر شتى الوسائل، بل كان مدرسة وطنية اجتماعية تقدمية تركت بصمات واضحة في مختلف جوانب الحياة العراقية، وفي مختلف مناطقه، في المدينة والريف.. فقد استطاع الحزب، رغم الظروف القاسية والملاحقات، أن يؤسس لنهج فكري واجتماعي متجذر في قيم العدالة والمساواة والحرية، مما جعله مؤثرًا في تشكيل وعي الأجيال العراقية المختلفة، وهو بهذا سعى إلى تحقيق أهدافه عبر نشر فكره في وعي الجماهير خارج وجوده في السلطة كما عملت بقية الأحزاب السياسية التي لم تترك بعد زوال وجودها غير الخزي والعار.
دوره في النضال الوطني والتحرر من الاستعمار
برز الحزب الشيوعي العراقي كأحد القوى الرائدة في مناهضة الاستعمار البريطاني في العراق، وكان اسمه عند التأسيس "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" حيث لعب دورًا رئيسيًا في الحركات الشعبية وقيادتها نحو النضال من أجل نيل الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي عبر مشاركته الفعالة في وثبة كانون 1948 ضد معاهدة بورتسموث، وانتفاضة 1952 ، وكان من أوائل الداعمين لثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، و كان الحزب وما يزال يؤمن بأن التحرر السياسي لا يمكن أن يتحقق دون التحرر الاجتماعي والاقتصادي، فتبنى خطابًا يدعو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الاستغلال.
لم يكن الحزب يفرق بين المكونات العراقية، فقد ضم في صفوفه العرب والأكراد والتركمان والمسيحيين وغيرهم، ورفع شعار الوحدة الوطنية في مواجهة الطائفية والانقسامات، ويعتبر اليوم وبعد واحد وتسعين عاما الحزب الوحيد في العراق الذي يضم كل اطياف الشعب العراقي بمختلف قومياته واديانه وطوائفه.
كان للحزب دور اجتماعي طبقي في دفاعه عن الفقراء والفئات المهمشة، فمنذ نشأته، كان الحزب صوتًا للفقراء والمحرومين، حيث ساهم في تنظيم النقابات العمالية، ووقف إلى جانب الفلاحين في نضالهم ضد الإقطاع، ما جعله قوة مؤثرة في إصدار قانون الإصلاح الزراعي في عهد عبد الكريم قاسم، الذي منح الفلاحين حقوقهم في امتلاك الأراضي.
وكان الحزب من أوائل القوى التي دعمت تحرير المرأة العراقية، وساهم في تأسيس رابطة المرأة العراقية التي ناضلت من أجل حقوق النساء في العمل والتعليم والمشاركة السياسية. رفض الحزب التقاليد التي تعيق تقدم المرأة، وسعى إلى منحها دورًا فعالًا في بناء المجتمع. وهو اليوم يقف بقوة ضد التعديل الاخير لقانون الاحوال الشخصية رقم 88 لسنة 1959 وشكل جبهة رفض قوية ضد التعديل الجائر وما زال يواصل دوره في ضمان حرية وحقوق المرأة العراقية.
وقد امتلك الحزب قاعدة قوية بين الشباب والمثقفين والطلبة، وكان له دور بارز في تشكيل الاتحادات الطلابية التي دافعت عن قضايا التعليم المجاني والحرية الفكرية. كانت الجامعات العراقية، وخاصة في الخمسينيات والستينيات، أحد معاقل الفكر الشيوعي، حيث انتشرت أفكاره في أوساط الطلاب والمثقفين.
ويعتبر الحزب الشيوعي العراقي مدرسة في التنوير الاجتماعي ونشر الثقافة الوطنية والتقدمية بين أبناء شعبه، فلم يكن الحزب مجرد حركة سياسية تسعى لاستلام السلطة وتحقيق برنامجه بل كان حركة ثقافية ساهمت في إنتاج أدب وفن ملتزم بقضايا الشعب. كان العديد من الشعراء والأدباء والفنانين أعضاءً أو متأثرين بفكر الحزب، ومن أبرزهم: مظفر النواب، الذي وثّق في قصائده معاناة الفقراء والمضطهدين، وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، اللذان عبّرا عن هموم المجتمع بأساليب حداثية، وكاظم السماوي، الذي استخدم الشعر كأداة للنضال ضد الاستبداد. إضافة إلى الاجيال اللاحقة مثل عريان السيد خلف وأبو سرحان وكاظم الرويعي وغيرهم الكثير، وقد كان للحزب دور في دعم ونشر المسرح والسينما حيث برزت اعمال فنية لا زالت عالقة في الذاكرة العراقية مثل مسرحية النخلة والجيران وانا أمك يا شاكر وغيرها الكثير، وقد كان للفنانين والفنانات الشيوعيات وأصدقائهم الدور الريادي في نشر الفن الشعبي التقدمي مثل يوسف العاني وخليل شوقي وزينب وناهدة الرماح.
وكان للحزب دور مهم في نشر الفكر الاشتراكي والتقدمي من خلال الصحف والمجلات الثقافية، مثل "كفاح الشعب " و"طريق الشعب"، ومجلة الثقافة الجديدة التي لعبت دورًا كبيرًا في نشر الوعي السياسي والاجتماعي بين العراقيين. كما ساهم في نشر كتب ومؤلفات تدعو إلى الفكر العلمي والتقدمي. وكان الشيوعيون العراقيون أول من درس وبحث في التراث العراقي ونبه إلى التراث التقدمي لشعبنا عبر الحضارات القديمة.
هذا ما جعل الحزب مستمرا في وجوده بين أبناء الشعب العراقي رغم كل حملات الإبادة التي تعرض لها طوال سفره النضالي الطويل، وهو بهذا يُعد أكثر من مجرد تنظيم سياسي، فهو مدرسة فكرية ونضالية تركت أثرًا عميقًا في الوعي الوطني والاجتماعي العراقي. اضافة إلى انه بقي رمزًا للنضال من أجل العدالة والمساواة، وظل صوته حاضرًا في الحراك الشعبي والسياسي. إن إرث الحزب لا يكمن فقط في تاريخه النضالي، بل في أفكاره التي لا تزال تلهم أجيالًا جديدة من العراقيين الساعين نحو الحرية والعدالة الاجتماعية. ورغم تراجع اليسار عالميًا، فإن الروح التقدمية التي زرعها الحزب في المجتمع العراقي لا تزال مؤثرة حتى اليوم.