ثمة أشخاص لا يشبهون المدن، بل يكونونها. وإذا ما تلبس إنسان بمدينة، وتحول في عينيك إلى طيبتها وعمقها وجمالها، فأنت حتماً أمام شخص استثنائي. وموفق محمد، في حضوره وأثره، هو مدينة الحلة نفسها؛ الفرات حين يتهادى على ضفافها، وصوت سعدي الحلي إذا ما ضحك، وروجة الماء تنساب تحت الجسر حين تعبره مشياً برفقته.
لم يكن موفق الذي رأيته على المنصات، أو في ساحات الوطن، يشبه موفق الذي التقيته في الحلة. هناك، في موطنه الأول، بدا لي وكأنه شارع من شوارعها القديمة، أو دكان عطّار يعبق بعطر الذكريات، أو حتى زقاق في "محلة الهيتاويين" يهبط ويصعد لتبقى الحلة مرفوعة الرأس، باسقة الروح.
كان اللقاء به عند صديقه القصّاب، ذات صباح من شتاء حلّي دافئ، بعد ليلة قضيناها نحلم بلقائه. كنا نزلاء بيت قاسم، وضيوفاً لدى ثائر، ابن أستاذ الحلة عبد العباس. برفقتي شلة من الاصدقاء... جمعتنا رغبة واحدة: أن ننهل من نبع موفق في مدينته. كنا قد اختلفنا في بغداد على مكان السهر، فاقترحت أن نهرب إلى الحلة، حيث الدفء لا يُختصر في المدافئ، بل في القلوب.
حين دخلتُ المحل ورأيته ينهض نحونا، بشعره الثلجي، وقميصه البسيط، وابتسامته التي تشبه طلعة النهر، شعرت بشيء من الغبطة والطمأنينة. لم يكن لقاؤه مجرد استقبال، بل طقوس حب ونشيد ترحيب... كانت كلماته كطيور الفخاتي، بيضاء الجناح، تتراقص فوق نهر الحلة، حزينة من الداخل، مبهجة في حضورها. في تلك اللحظات، شعرنا أننا لا ندخل إلى موفق، بل إلى الحلة من بوابتها الأعمق، من روحها. هو لم يستقبلنا كما اعتدنا حين نلقاه في بغداد أو في ساحات الشعر، بل كأنما استعار طيبة النهر وعبق توابل ((باكلة الحلة بالدهن)) ، ونثرها على رؤوسنا هيلًا وفرحًا.
وحين اقترح علينا زيارة تمثاله الشامخ، لم تكن الدعوة لزيارة نصبٍ فني، بل لحجٍّ شعري إلى ذاته الأخرى، المنحوتة في البرونز. كنا نخطو خلفه فوق الجسر، وهو يسترق النظرات إلى النهر، وإلى نصبٍ يشبهه، يرفع يديه للسماء. كان موفق يحكي عن الحلة كما لو كان يحكي عن أمه، وعن طفولته، عن تلك المحلة التي ولد فيها فسمّته ((الحبوبة)) "موفق"، وبالحب ربّته.
كان اللقاء به ذكرى لا تُنسى، وفرحًا لا يُقاس، وأيقونة حلاوية نُقشت في الذاكرة...
أن تلتقي موفق محمد في الحلة، فذلك يشبه أن تلتقي الحلة في لحظة صفاء نادرة.