يعاني الريف في العراق من تدهور متواصل منذ عقود، وقد تفاقم هذا التدهور في السنوات الأخيرة وعلى مختلف الأصعدة: الاقتصادية، الزراعية، البيئية، الصحية، والخدمية. ويُعزى ذلك إلى أسباب عديدة، في مقدمتها الإهمال الحكومي، سواء في عهد النظام السابق أو الحكومات التي تعاقبت منذ عام 2003 وحتى اليوم.
فلم تمنح هذه الحكومات القطاع الزراعي في موازناتها السنوية أكثر من (1بالمائة) سنويًا، غير مكترثة بالزيادة السكانية في عموم العراق، ولا بالريف تحديدًا، الذي يُعَدّ مسؤولًا أساسيًا عن تحقيق الأمن الغذائي للمواطن. كما لم تُبدِ أي اهتمام بالتطورات العالمية في قطاع الزراعة بكافة مجالاته.
ولم تسعَ إلى تطوير هذا القطاع أو رسم سياسة واضحة لتحديثه، سواء في ما يخص إدارة التربة والمياه، أو التسويق الزراعي، أو التجارة الخارجية، أو السيطرة على الأمراض المستوطنة والوافدة التي تصيب الثروة الحيوانية.
يُضاف إلى ذلك التدهور البيئي في الريف نتيجة الجفاف وشحّة المياه في نهري دجلة والفرات، بسبب السياسات المائية الجائرة التي تتبعها دول المنبع، تركيا وإيران، اللتان لم تمنحا العراق حقوقه المائية، ما أدى إلى جفاف الأهوار وانخفاض إنتاج الأسماك، وهو أحد مصادر دخل سكان الريف، فضلًا عن هلاك أعداد كبيرة من الحيوانات، مثل الجاموس، والنباتات المحلية، مثل القصب والبردي، اللذين يدخلان في صناعات محلية متعددة.
ويستمر التدهور ليشمل التربة، نتيجة السياسات الخاطئة في إدارة المياه والأراضي، ومنها توزيع ملايين الدونمات في البوادي العراقية التي خُصصت أصلًا للرعي، إضافة إلى التجاوز على القوانين، وعمليات التجريف الناتجة عن التوسع السكاني والعمراني، فضلًا عن شحّة المياه، وكل ذلك أدى إلى تصحر ملايين الدونمات، وانتشار العواصف الترابية بشكل شبه يومي في معظم مناطق العراق، وتدهور البيئة، وازدياد الأمراض التنفسية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أدّى إلى هجرة مربي الأغنام إلى دول الجوار، بعد منعهم من الرعي في البوادي العراقية، مما تسبب في ارتفاع أسعار اللحوم منذ أكثر من عام. ولم تنجح سياسة وزارة الزراعة بالاستيراد سواء للحوم الحية أو المذبوحة في خفض الأسعار، بل أضافت مشكلات جديدة، منها إدخال العديد من الأمراض الحيوانية إلى الأراضي العراقية، ما أدى إلى إصابة الثروة الحيوانية المحلية بأمراض مثل الحمى القلاعية.
وقد بلغ التدهور حدًّا خطيرًا تمثل في عجز وزارتي الزراعة والموارد المائية عن وضع خطة زراعية، ليس فقط خمسية أو سنوية، بل حتى خطة موسمية لهذا الموسم الصيفي، مع منع الفلاحين من الزراعة.
فما هي الحلول الممكنة لتجاوز هذا الواقع وتطوير الريف والزراعة العراقية بكافة مفاصلها؟
إن الأمر يتطلب حزمة من الإجراءات العاجلة، يمكن تلخيص أبرزها بما يلي:
- تشكيل هيئة عليا لإدارة قطاعي الزراعة والمياه والبيئة، تضم بالإضافة إلى المختصين العاملين في الوزارات ذات العلاقة، خبراء من الجامعات العراقية، وتُمنح صلاحيات كاملة لتنفيذ برامجها.
- تخصيص موازنة تتناسب مع حاجة القطاع الزراعي، وأهميته في تحقيق الأمن الغذائي، ونسبته في رفد الدخل القومي.
- معالجة ملف المياه بوصفه القضية الأساسية، عبر التفاوض مع دول المنبع لنهري دجلة والفرات، واستخدام كل الوسائل الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية الممكنة للضغط، مع وضع سياسات واقعية لترشيد استهلاك المياه الداخلة إلى حوضي النهرين، من خلال استخدام التقنيات الحديثة، وحماية الخزين الاستراتيجي من المياه الجوفية.
- تطوير الصناعات التحويلية الزراعية، وبالأخص معامل الأسمدة بأنواعها، لما لها من أثر مباشر في دعم الفلاح والعملية الزراعية، إضافة إلى تطوير معامل أخرى مرتبطة بالقطاع.
- تحديث قطاع التسويق الزراعي، بما يواكب حجم وتنوع الإنتاج، من خلال إنشاء سايلوات، ومخازن تبريد، ومختبرات، وتوفير كوادر فنية مدربة على الفحص والتحليل.
- إيقاف الاستيراد العشوائي، ووضع سياسة استيراد تتناسب مع وفرة المنتج المحلي، مع تشديد الرقابة على المنافذ الحدودية والأسواق، ومحاسبة الفاسدين والمتنفذين، وتطبيق القوانين بحقهم.
- تطوير قطاع الثروة الحيوانية، عبر تحسين البنى التحتية الصحية البيطرية، وزيادة عدد المختبرات والكوادر المتخصصة، وتوفير اللقاحات والعلاجات من مناسئ معتمدة دوليًا، إلى جانب توفير الأعلاف المدعومة للمربين.
- دعم المحاجر الزراعية والحيوانية في المنافذ الحدودية، وتوفير الكوادر المتخصصة فيها.
- تعزيز دور المصرف الزراعي، وتسهيل إجراءات منح السلف والدعم المالي للفلاحين بآليات مبسطة وميسّرة.
- الإسراع في تسديد مستحقات الفلاحين، وثمن محاصيلهم، وتعويضهم عن المواسم التي مُنعوا فيها من الزراعة.
- وضع خطط بديلة للزراعة، في حال تعذّر تنفيذ الخطة الموسمية، لضمان استمرارية عمل الفلاح وعدم ترك أرضه بائرة.
- إيقاف جميع الاستقطاعات المترتبة على الفلاحين، من ديون وسلف ومبالغ مستحقة للماء والكهرباء، إلى حين استقرار الوضع الزراعي وعودة الفلاح إلى زراعة أرضه.
- الاهتمام بالإرشاد الزراعي، من خلال دعم المراكز الإرشادية، والتركيز على نشر مفاهيم ترشيد استهلاك المياه، والزراعة البديلة المستدامة بكافة أشكالها.
- إعادة تفعيل مشاريع استصلاح الأراضي ومكافحة التصحر، ومواصلتها عبر هيئات متخصصة.
ـــــــــــــــــــــ
*مهندس زراعي استشاري