اخر الاخبار

لم ولن تغادر روحي، ومكامن العقل، ورغم مضي السنين، مشهد الصفحة الأولى بمانشيتها الأحمر البراق... لم ولن أنسى ذلك العنوان الصارخ بالمعاني "اتحاد الشعب"، وأنا أحمل الجريدة، في واحدة من أبرز محطات نضجي الفكري والإنساني. كنت أحث الخطى لتحقيق رغبة الشقيق الأكبر سلمان داود السعدي، في شراء وجلب أولى الصحف الشيوعية التي صدرت علنية بعد الثورة الحقيقية والخلاص من سلاسل الخضوع والتبعية لقوى الاستعمار والانتداب. كنت استلها من بين صحف أخرى، من كشك لبيع الصحف عند حافة جسر الشهداء، وأمضي معتداً فخوراً ومتباهياً... لا أعير انتباها للسائرين أو لزحام السيارات في منطقة عرفت بالكثافة، وهي منطقة الكرخ/ الدوريين. كان همي هو تصفح الصفحات منبهراً فرحاً باحتضانها.

عناوين الجريدة الحمراء، السوداء، كانت وأمست مفاتيح وعي وسبيل تشكيل الهوية بالمعاني الاجتماعية – الفكرية والسياسية. وشكلت بالنسبة لي محطة في تكوين ذاتي وأول عناصر تشكل الوعي، إذ حفزت الإرادة في الغور في أعماق المعاني للحياة ولجوهر الذوات الإنسانية، وجاء ذلك منسجما وتواصلاً مع نهج اتخذته منذ الطفولة، في كره التبعية للنظام الملكي الغابر، حين كنت وقبل ثورة تموز 1958، وأنا في أولى مراحل الدراسة الابتدائية، أرفض الخروج لتحية الملك، حين كان يمر موكبه من أمام مدرستي الابتدائية في منطقة الدوريين، رغم ضغوط المعلمات. وحين كنت بمعية صديق مؤتمن لي بكتابة شعارات ضد الملكية والاستعمار، على كارتون علب السكائر (غازي وتركي)، وثم وضعها تحت أبواب الدور في المحلة.

نعم شكلت (اتحاد الشعب) أولى خطوات الوعي والنضوج بالنسبة لي، ومع مرور السنوات وتراكم عناصر تشكيل الوعي أزهرت أسباب ودوافع الارتقاء من مرحلة استيعاب أسس التفسير للكون والحياة، إلى فضاءات الانتماء من أجل التغيير.

وفي سنوات السبعينات، وحين بدأ إصدار الجريدة ذات العناوين الحمراء، علنية مرة أخرى، وبعد جفاف الانقطاع، وباسم (طريق الشعب) صرت ألتهم كل مفرداتها، هي والصحيفة الأسبوعية (الفكر الجديد)، ومن ثم مجلة (الثقافة الجديدة). نعم، كنت أقرأ بتمعن وتفكير كل محتويات هذه الصحافة الشيوعية، وهي المعبرة عن كل المعاني والأبعاد الوطنية الحقة، في زمن صار يعج بمطبوعات تزخر بالملكات الفنية والقدرات التكنولوجية، لكنها لا تعتمل في الروح ولا تنتج وعياً وطنياً واجتماعياً وفكرياً. حتى أنني لم أعير انتباهاً لمنع إدخالها إلى بعض المواقع، كنت أحملها لكي لا أخسر فرصة قراءتها، إلى الموقع العسكري الذي التحقت به في أواسط السبعينات جندياً مكلفا، الأمر الذي أربك قيادة الوحدة وضابطها السياسي، حتى أنهم صاروا مقتنعين بأنني كادر في حزبهم أود الاطلاع على ما ينشره الشيوعيون في زمن الجبهة (المريبة) ...!!!.

ولم يكن غريباً وبعد تجربتي في المكاتب الصحفية في الموصل وبغداد، أن أكون جزءاً من المسار وفي داخل حلقات العمل الصحفي والإعلامي الشيوعيين. فبعد تجربة العمل الصحفي في بيروت وحتى الخروج بعد حصارها من قبل العدوان الإسرائيلي، وقريبا من الصحافة الشيوعية، وتجربة عملي في حركة الأنصار صحفياً وإعلامياً، جاءت مسيرتي في دمشق منذ بدايات التسعينات، وفي شقلاوة مع الإذاعة والطريق، وثم العمل المكثف مرة أخرى في دمشق وفي تحرير الجريدة والمجلة، وأخيراً تجربة العمل في أعداد وتحرير طريق الشعب في بغداد بعد عام 2003. كل تلك المراحل حفرت في عقلي وروحي شرف الانتماء لصحافة شعبنا الشيوعية، وشكل دائما مصدر إلهام وزيادة وعي وتراكم خبرة في العمل الصحفي، المتسم بالصدقية والمهنية والالتصاق بحاجات الشعب والوطن وأوسع الجماهير ...!!.

وهنا لا أستطيع أن لا أذكر أو أتذكر، رفاق جاورتهم وتعلمت منهم الكثير من معاني الصحافة الشيوعية. وأخص الرفاق والصحفيين الكبار: د. غانم حمدون، الذي ترك أثره الكبير فترة عملي معه في دمشق في تحرير الطريق والثقافة الجديدة. والرفاق عبد الرزاق الصافي، وفخري كريم (منذ بيروت)، ورحيم عجينة (في إشرافه على الإذاعة)، وعادل حبه، ومفيد الجزائري (منذ العمل في الإذاعة في شقلاوة وثم في بغداد). طبعا لا أنسى أن أذكر بالخير الصحفي الشيوعي والمهني عدنان حسين الذي كان رئيس تحرير أول مطبوع شيوعي عملت فيه محرراً في بيروت، وتمثل بمجلة الحقيقة الناطقة باسم المنظمات الديمقراطية في بيروت، حينها. كما أعتنز بكل من شاركني العمل الصحفي منذ بيروت أعوام الثمانينات فلكل منهم مكانة في روحي وتجربتي المهنية.