اخر الاخبار

غربة العراقيين، لا تشبهها غربة، وحزنهم لا يشبهه حزن، وهمومهم ليس لها مثيل! ولقد تشابكت همومنا الى درجة صرنا فيها نخاف متابعة التلفزيون وسماع الراديو، ونتوجس من تقليب اي صحيفة ما بشكل عرضي، فالعراق، وطننا المبتلى بهموم الحروب والديكتاتورية، سيكون هناك، ولن نجد الى جانب اسمه سوى اخبار الموت! وفي سنوات منفانا الاجباري، التي طالت بدون مدى، ومثل كل العراقيين، كنت وما زلت أكره واتوجس كثيرا من رنين الهاتف، خصوصا تلك المكالمات، التي تأتيك عند الفجر او ساعات متأخرة من الليل. وكانت ليلة من منفى، عام 1998، حين رن الهاتف في ساعة متأخرة من ليالي القطب الشمالي، نهضت مذعورا من نومي، كنت لا ازال عازبا أعيش وحدي في غرفة صغيرة تزدحم بالكتب وطاولة عليها آلة طابعة قديمة. في البال ورد حالا ان الطائرات الامريكية قد تكون دكت مدن العراق تنفيذا لتهديدات صقور البنتاغون امام رعونة الديكتاتور ابن العوجة. كان ثمة صوت راجف، ينقل خبرا حزينا.. حزينا:

ـ رحل "صاحب الامتياز"!

لم تمض فترة طويلة، مجرد عدة اسابيع، حين كان يحدثني على نفس الهاتف. أسمع ضحكته المتعبة، واسألهُ عن وضعه الصحي، وأسمع مشاكساته وهو يسألني بصوته الاجش عن تفاصيل حياتي في هلسنكي. وعدته برسالة أذكر له فيها قضية ما، أردت فيها رأيه ووجهات نظره. وعد بالرد، ولكني لم ألحق لكتابة هذه الرسالة وبالتالي لإستلام جوابها.

في أيام فتوتنا، الايام الاولى من التحاقنا بصفوف حزبنا الشيوعي، ونحن نتابع الحكايات عن مناضليه الاسطوريين وقادته، ونرويها بفخر، كنا نتعامل بإعجاب كبير مع الاسماء التي لم يحدث أن التقيناها، ولذلك، كنا نرسم لهم صورا من خيالنا، نضيف لها ما نريد من الرتوش. وهكذا حين صدرت "طريق الشعب" العلنية عام 1973، كان يجاور عنوانها وبخط بارز عبارة: صاحب الامتياز.. وتحتها كتب اسم... ثابت حبيب العاني!

ياااااه... "صاحب الامتياز" ولجريدة الحزب الشيوعي العراقي، هذا يعني ان هذا الاسم بيده مصير الحزب. كيف لا وهو "صاحب الامتياز"! خصوصا اننا سمعنا أحاديث عن شجاعته واقدامه في قيادة التظاهرات وسجنه المتكرر في العهود المختلفة، وحين سألني احد الرفاق، من جيلي وأصحابي، عن دور ومهمة صاحب الامتياز، وبلغة العارف والفاهم بالامور أجبته بثقة تامة:

ـ أنظر.. هذا باختصار يعني الكل بالكل في الحزب!

فيما بعد حين دارت بنا الايام، واخبرت أبو حسان عن ذلك، اطلق ضحكة رنانة دفعته للسعال.

أول لقاء لي بالفقيد الراحل، ثابت حبيب العاني (1922-1998)، كانت في مدينة عدن، عاصمة اليمن الديمقراطي، عام 1981، كنت ضمن كوكبة من فتية رفاق شيوعيين، أختارهم الحزب لدورة عسكرية خاصة قبيل التحاقنا بجبال كردستان. زارنا الى معسكر التدريب، وحين شاهدنا بذلك الحال وتأثير التدريب القاسي على اجسادنا، ووجوهنا الناحلة وعيوننا الغائرة، صاح بفزع وبحنان أبوي افتقدناه طويلا:

ـ هاي شصاير بيكم؟

والتفت الى الرفيق ابو تانيا (عدنان عباس) المسؤول المباشر عنا حينها، ليكرر السؤال: هاي أنتو شمسوين بالرفاق؟

ظلت هذه الصورة عالقة في بالي دوما. أبوته لرفاقه، ودماثته في التعامل معهم وروح التواضع المنقطعة النظير التي صرنا نكتشفها فيه كلما نلتقيه وجعله محط حب واحترام رفاقه من مختلف الاجيال.

في ايار 1982، كان تاريخ التحاقنا بحركة الانصار للحزب الشيوعي العراقي، كنت مع مجموعة ضمت الشهيدة احلام (عميدة عذبي الخميسي) والفقيد الصديق الراحل ملازم فائز(سلام ابراهيم جليل)، وكان مرورنا عبر مناطق نفوذ الاحزاب الكردستانية الايرانية، وحدث ان التقينا في احد القرى، ضمن موعد مسبق، بوفد قيادة حزبنا العائد من اجتماعات مع الاحزاب الكردستانية العراقية، فالمفاوضات كانت جارية لاجل تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود). كان ابو حسان ضمن الوفد، وحين التقانا قال بصوته المحبوب:

ـ الان أرى ان الدم رجع لوجوهكم.

 وفي ضيافة الاصدقاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدكا)، جماعة الشهيد قاسملو، خطر للعزيز فائز ان يوقعني بمقلب. اذ اقتضت العادة في تلك المناطق عند الانتهاء من شربك لاستكان الشاي ان تميله في الصحن علامة على عدم رغبتك بالمزيد. اخفوا عني ذلك بتحريض من فائز، وتوقف الجميع عن شرب الشاي ما عداي، اذ ظل أهل البيت يرشقوني بالاستكان بعد الاستكان، وكادت بطني ان تنفجر، وكان أبو حسان يجلس الى جانبي، وبالكاد يغالب ضحكته، ثم لم يحتمل، فأنقذني مما رسمه رفاقي لي وأوقعوني به، فكانت حكاية صرنا نستذكرها كلما التقينا.

وتوالت عجلة الايام. عملت لعدة سنوات على ملاك الفوج التاسع للانصار في مناطق السليمانية، وبعد ان ارسلت للعلاج في بلد مجاور، واذ صادف حينها صدور كتابي "عراقيون" وهو اول مجموعة قصصية انصارية، تطبع في كردستان صيف عام 1985، وبامكانات الانصار الطباعية المتواضعة، حللت ضيفا على مقر الاعلام المركزي والمكتب السياسي في مناطق لولان وأرموش. وأرادني الرفاق في المكتب العسكري، في قيادة الأنصار، ان ابقى في مقر الاعلام المركزي، لاعتقادهم بإمكاني القيام بمهام متعددة، عسكرية واعلامية في آن واحد، وحين لمسوا ان لي رغبات اخرى، ولأجل اقناعي بوجهة نظرهم، كلفوا الرفيق ابو حسان مفاتحتي واقناعي. وبعد نقاش وحوار لأكثر من جلسة، اقتنع أبو حسان بحججي، وصار يقف الى جانبي، ما اثار ابتسام الفقيد ابو عامل سليمان يوسف بوكا (1925 2008)، مسؤول المكتب العسكري لقوات الأنصار فقال له:

 عيوني... أردنا منك ان تقنعه، الان لازم إحنا نقنعك اولا!

ولم يمض وقت طويل، حتى التقيته من جديد في مناطق مقر قاطع بهدينان لانصار الحزب، في وادي زيوة، حيث بنى له الرفاق الانصار غرفة منفردة، صارت محجا لزيارات الرفاق الانصار حين يزورون المقر من كل الوحدات الانصارية. وكنا خلال زياراتنا الى مقر القاطع نلتقيه فيها، ونتبادل معه احاديث حول تاريخ الحزب، اذ كان له دور متميز في مسيرة حزبنا النضالية لحقبة طويلة، شغل فيها مسؤوليات كثيرة في حياته الحزبية، خصوصا معلوماته الغنية عن نشاط الحزب في القوات المسلحة، حيث كان لفترات مسؤولا للتنظيم العسكري في الحزب قبل ثورة 14 تموز 1958، واذ لمسنا أنه كان يتمتع بذاكرة قوية ليتذكر الارقام والاسماء، ما شجعنا لان ندعوه لكتابة ذلك وتوثيقه. وقد باشر كتابة مذكراته، لكنه فقدها في ظروف عصيبة، وقد عاود في منفاه بلندن، كتابتها من جديد بمساعدة من كوكبة من الرفاق الذين تطوعوا لاجل ذلك، وصدرت في عام 2014 بعنوان (أعوام مضيئة من النضال من أجل الشعب والحزب) وبطبعة متواضعة، كما علق الرفيق عادل حبه الذي اعد المذكرات للطبع. وفي مقدمتها ذكر أنه (عملت في صفوف الحزب وخضت نضالاته لفترة زمنية ليست بالقصيرة تمتد منذ عقد الاربعينيات من القرن العشرين عندما نلت شرف العضوية في عام 1944، ومازلت عضواً فيه حتى كتابة هذه السطور في عام 1990.

لقد شرّفني الحزب وكلّفني المشاركة في نضالاته الجماهيرية والعمل في منظماته المهنية والديمقراطية، وربّاني في خضم الصراع الوطني والطبقي وجعل مني كادراً أقود منظمات ونقابات. كما شرفني الحزب بعد ذلك ولسنوات طويلة بأن أتولى منصباً قيادياً في أعلى هيئاته، وساهمت في مؤتمراته وكونفرنساته. كما شرّفني الحزب في قيادة منظمات في مجالات خطيرة وحساسة، هذا علاوة على سنوات عديدة ساهمت خلالها في نشاط الحزب قبل أن أتسلم بطاقة العضوية فيه).

 خلال لقاءاتنا مع الرفيق ابو حسان، اواخر ثمانيات القرن الماضي، كنا نخوض معه حوارات صريحة، حول وضع الحزب والحركة الشيوعية، حيث كانت ايامها ترتفع اصوات البريسترويكا من موسكو، وقد وصلت أصداؤها الى الشيوعيين العراقيين ولقت حماسا كبيرا بين صفوف الانصار. كان ابو حسان صريحا، وكان مدهشا وجريئا، في نقد نفسه والاعتراف بأخطائه في العمل الحزبي والقيادي. كان يتحاشى تحميل الآخرين أخطاء الحزب بلغة "تصفية الحسابات" التي ظهرت عند البعض عند كتابة مذكراتهم. كان يقف الى جانب مراجعة الحركة الشيوعية وحزبنا لمسلمات كثيرة في العمل، ومنها تعزيز الديمقراطية في حياته الداخلية، فبدونها لا يمكن الحديث عن حزب جماهيري!

وفي يوم من عام 1989، في طهران، بعد حملات الانفال، واضطرار مقاتلي

البيشمه ركه، وقوات حركة الانصار للانسحاب الى الدول المجاورة، وكنا مجموعة من الانصار نعيش ظروفا صعبة، اذ كنا اشبه بالمحتجزين هناك، وصلتني بطريق اليد رسالة من الرفيق العزيز ابو حسان، رسالة تفوح منها كلمات الابوة والتعاضد، تشد من عزيمتي، وتذكر ان هناك مساعي لاخراجنا الى دول اخرى، ويوصيني بالتكاتف مع الاخرين لتجاوز محنتنا في ايران التي طالت وسببت لنا اوضاعا نفسية سيئة، وان علينا ان لا نفقد الامل، ولم ينس ان يشجعني على استثمار الوقت في الكتابة. حين اخبرت رفاقي بالرسالة وجدت ان رسائلا مماثله منه، وصلت لاكثر من رفيق بذات المعنى، رغم انه ايامها كان يعاني من التعب والمرض.