اخر الاخبار

تُعدّ ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة واحدة من أهمّ الأحداث التاريخية التي شهدها العراق في القرن العشرين، والتي أثّرت بعمق على الوضع العراقي في مختلف المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلًا عن تأثيرها الكبير في البنية التحتية للبلاد، لا سيّما في الريف العراقي الذي يُمثّل الشريحة السكانية الأكبر آنذاك، والذي طالته – إن لم يكن أكثر من غيره – تغييرات جذرية أعقبت انطلاق الثورة، شملت شتى جوانب الحياة. ويمكن إبراز أبرز هذه التغييرات في الآتي:

 

أولًا– في مجال التشريع: سعيًا لإنهاء الدور السياسي والاقتصادي للإقطاعيين وكبار الملاّك، وإجهاض أي تحرك مضاد للثورة من جانبهم، كان لا بدّ من تحجيم قوتهم الاقتصادية والسياسية عبر حزمة من التشريعات، أبرزها:

أ- قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، الذي صادَرَ معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها الإقطاعيون وكبار الملاّك، حيث كان 1بالمائة فقط من السكان يمتلكون نحو 75بالمائة من أراضي العراق. وقد أُعيد توزيع هذه الأراضي على الفلاحين الفقراء، واستفادت من هذا الإجراء أكثر من 400 ألف عائلة فلاحية. ورغم وجود بعض الملاحظات على القانون، إلا أنه مثّل خطوة تقدمية بارزة في مسار الإصلاح الزراعي.

ب- إلغاء قانون دعاوى العشائر المدنية والجزائية، الصادر عام 1918، والذي كان يُستخدم كأداة قمع بيد الإقطاعيين وكبار الملاّك للهيمنة على الفلاحين في شتى مناحي الحياة.

ج- تنشيط العمل النقابي في الريف وتطوير الديمقراطية الاجتماعية، من خلال تشريع قانون رقم 79 لسنة 1959 الخاص بتأسيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في العراق، وقد شُكّلت آلاف الجمعيات من الشمال إلى الجنوب. إلا أن هذه الخطوة لم تلقَ رضا البرجوازية الوطنية الحاكمة آنذاك، التي رأت في هذا الاتحاد تهديدًا لهيمنتها على الريف، فتحركت لاحقًا لإصدار قانون جديد أنهى دور الاتحاد في تشكيل الجمعيات، وأسند إدارتها للسلطات المحلية، التي قامت بدورها بإلغاء أكثر من 3 آلاف جمعية فلاحية، ومن ثم سلّمت إدارتها لأتباعها. ورغم ذلك، استمرت الكوادر الفلاحية النشطة في إدارة الصراع داخل الريف والدفاع عن حقوق الفلاحين حتى انقلاب شباط الأسود، الذي أجهض الثورة.

د - تطوير العمل التعاوني والجماعي في الريف، بهدف رفع الإنتاجية وتحسين الاقتصاد الريفي، من خلال تأسيس جمعيات تعاونية زراعية. فقبل الثورة، لم يكن هناك سوى 16 جمعية تعاونية، بينما ارتفع العدد بعد الثورة إلى 436 جمعية تعاونية زراعية، ما يُعدّ قفزة نوعية في العمل الزراعي.

ثانياً– إعادة البناء وتطوير البنى التحتية للقطاع الزراعي والريف عمومًا، وشمل ذلك ما يلي:

أ- بناء وتشغيل أربعة سدود: دوكان، الثرثار، أسكي كلك، وأعالي الفرات.

ب- إنشاء معملين في مجال الصناعة الزراعية: أحدهما للآلات والمعدات الزراعية، والآخر لصناعة الجرارات الزراعية في الإسكندرية.

ج- شملت الجهود أيضًا بناء العديد من المصانع في مجال الصناعات التحويلية، إذ أُنشئ 25 معملًا للطحين، و14 معملًا لكبس التمور، بالإضافة إلى معمل لدباغة الجلود والسجائر في السليمانية، ومعملي الأسمدة الكيمياوية والورق في البصرة، فضلًا عن معمل ألبان أبو غريب. وفيما يتعلق بالبنى التحتية الريفية، فقد شهدت القرى والأرياف نهضة عمرانية واضحة، تمثلت في تعبيد وتبليط آلاف الكيلومترات من الطرق الريفية، وبناء آلاف المدارس والمستوصفات في مختلف مناطق الريف العراقي، إلى جانب إنشاء مئات المراكز الخاصة بتطوير المرأة الريفية ومراكز للنشء الريفي. إلا أن هذه الإنجازات، للأسف، لم تصمد في وجه المتغيرات السياسية التي أعقبت عام 2003، حيث استولت جهات متنفذة وبعض الأحزاب على عدد كبير من هذه المراكز، وحوّلتها إلى مقار حزبية أو دور سكنية خاصة.

لقد تحقّقت هذه الإنجازات الكبيرة خلال فترة وجيزة لم تتجاوز الأربع سنوات، رغم الصراع الحاد بين قوى الثورة والقوى المضادة، إلى جانب الضغوط الخارجية المكثفة التي سعت لإسقاط التجربة الثورية. ومع ذلك، تم إنجاز ما يُعدّ ثورة حقيقية في القطاع الزراعي والريف العراقي، وهو ما يكفي للتدليل على أهمية وتأثير ثورة تموز 1958.

ـــــــــــــــــــــــ

* مهندس زراعي استشاري