اخر الاخبار

لم يكن الدرس الثالث من مادة الفيزياء للمرحلة الثالثة في متوسطة هيت كأي درس، ولم تكن تلك اللحظة العابرة التي سحبت فيها كتابي من حافظة الرحلة سوى بداية لرحلة أخرى، أشد تعقيدًا وأعمق أثرًا. أذكر جيدًا حين وجدت جريدة صغيرة مطوية بين صفحات الكتاب، ارتبكت للحظة، بل تملكني فضول ممزوج بشيء من القلق، خاصة حين لمحني الأستاذ وابتسم، وكأنه يعلم سر تلك الورقة التي تخبئها دفاتري.

أعدت طي الجريدة بسرعة دون أن أعرف ما هي، حاولت جاهدًا أن أركز مع شرح الأستاذ، مع أنني من عشاق هذا الدرس ومتفوق فيه، لكن المفاجأة احتلت كل زاوية في رأسي. انتظرت انتهاء الحصة بفارغ الصبر، وما إن دوى جرس النهاية وخرج الطلبة حتى بقيت لأرى ما قصة تلك الجريدة، ناداني صوت زميل كان جالسا خلفي دون أن ألتفت، قال بصوت خافت:

"لا ترتبك… دعها بين الكتب، واقرأها في البيت".

خرج، وخرجتُ بعده، لكنني حملتُ معي ثقل السؤال وفضول الاكتشاف، فالجريدة الصغيرة لم تكن مجرد ورقة مطبوعة، بل كانت، دون أن أدري، بوابة عبوري الأولى إلى عالم مختلف.

عدتُ إلى البيت، لم أبدّل ملابسي، لم أتناول شيئًا، فتحت الجريدة بلهفة، فإذا بها "الفكر الجديد"، بحجمها الصغير، لكنها كبيرة بما تحمله من تنوع فكري وأدبي وفني. قرأت كل ما احتوته صفحاتها بشغف، لكنني توقفت طويلًا عند صفحتها الأخيرة، تلك الصفحة التي جمعت أخبارًا وموضوعات أدبية، شعرت وكأنني وجدت شيئًا كان ينقصني، شيئًا لم أكن أعلم بوجوده أصلًا.

في اليوم التالي، حملتني قدماي، بخطوات خجلى، إلى مكان بيع الصحف وسط السوق، وكأنني ذاهب إلى موعد مرتب سلفًا مع قدري، وهناك وجدته، زميلي، ينتظرني بلا اتفاق. دخلنا المكتبة الصغيرة، طالعتُ بعينين جائعتين عناوين الكتب والصحف، اشتريت كتابًا لسلامة موسى، وعددًا جديدًا من "الفكر الجديد"، ومنذ تلك اللحظة، عرفت الطريق... طريق الكتب، طريق الصحف، طريق الوعي..... طريق الشعب!!

كانت البداية مع "الفكر الجديد"، لكنها لم تكن النهاية، بل مفتاحًا لعالم أوسع، عالم الصحف اليسارية والشيوعية التي شكّلت وعي جيلي وزرعت فينا بذور التفكير النقدي وروح البحث عن العدالة. لم أكن وحدي، كنا كثيرين، نلهث خلف " طريق الشعب"، و"الثقافة الجديدة"، و"الفكر الجديد"، نقرأها سرًّا أحيانًا، ونتداولها بفخر أحيانًا أخرى، لكنها كانت دومًا أكثر من مجرد أوراق تُطوى وتُرمى، كانت مدرسة، بل جامعة كاملة.

علّمتنا تلك الصحف أن الحياة ليست مجرد معادلات فيزيائية أو دروس محفوظة، بل معركة فكرية مستمرة، فيها الاقتصاد، وفيها السياسة، وفيها العدالة التي يحلم بها الفقراء والمهمّشون، وتلك القصائد التي تصرخ بحرية الإنسان، والروايات التي تحكي عن أبطال التحرر، من ثورة أكتوبر إلى مقاومي النازية والفاشية، إلى ثورات شعوبنا الباحثة عن كرامة العيش.

لم تكن طريق الشعب صحيفة فحسب، بل كانت رفيقًا يوميًا، نبدأها بعمود أبو كاطع، وننتهي بصفحاتها الثقافية والسياسية، ننهل منها ما لم تعلّمنا إياه المدارس، ونتلمّس فيها وعيًا يتشكّل وحلمًا يكبر، ونسأل أنفسنا كل يوم: كيف نكون جزءًا من هذا التيار الذي يصنع الإنسان الجديد، الإنسان الذي يعي ذاته ومجتمعه وتاريخه.

ومن بين طيّات تلك الصحف، تشرّبنا الأدب، الشعر، الرواية، وتعلّمنا لغة الحوار، لغة السؤال، وتعلّمنا ألا نخشى الإجابة الصعبة، ولا أن نُصنَّف إذا نطقنا برأي، فكم مرة سُئلت: "أأنت شيوعي؟"، وكنت أبتسم، لا لأن الانتماء تهمة، بل لأنهم رأوا في مواقفي، في لغتي، في وعيي، ملامح تلك الصحف، ملامح مدرسة امتدت من حبر "كفاح الشعب" إلى حوارات "الثقافة الجديدة"، وعمق "الفكر الجديد".

نعم، كانت الصحف الشيوعية العراقية مدرسة لا تشبه غيرها، صنعت منا قرّاءً، نفكر بوعي، ثم، شاء القدر، أن نكون جزءًا من جيل ما زال يؤمن أن التغيير يبدأ من الكلمة، من الورقة المطبوعة، من الفكرة التي تُرعِد العروش وتحطم الدكتاتوريات.

وها نحن اليوم، وبعد كل تلك السنوات، نقف أمام هذا الإرث، نرى أثره الغائب في ملامح الشبيبة الجديدة، جيلٌ ابتعد عن القراءة، أغمض عينيه عن الصحف التي تحمل الوعي وتفتح الأفق، وفتحها على ثقافة العولمة الاستهلاكية، على لهاثٍ خلف آخر صرعات المودة، وانبهار أعمى بأنواع الأكلات السريعة، وكأنها بديل عن الفكر والغذاء الروحي، رغم الواقع البائس والمستقبل الضبابي الذي يحيط بهذا الجيل.

وهنا، تقع المسؤولية الكبرى على عاتق القائمين على الإعلام في الحزب الشيوعي، وعلى لجان الثقافة في الأحزاب والنقابات والاتحادات، ليعيدوا إنتاج الوعي بأساليب تتماشى مع روح العصر، ليعيدوا للجريدة دورها التربوي والتنويري، وليضعوها، كما وضعت لنا يومها خفية في كتاب الفيزياء، بين أيدي الجيل الجديد.