الصحافة الشيوعية ليست مجرد مؤسسة إعلامية، بل هي ساحة نضال وميدان كفاح، تمارس فيه الكلمة الحرة الصادقة، ويجسد من خلاله الفعل الجماهيري الواعي، الذي تترسخ ملامحه في صفحات الجرائد والمجلات وأدبيات الحزب المختلفة. إنها خليط متجانس من السياسة والاقتصاد والأدب وهموم المجتمع، وهي مدرسة خرجت صحفيين كبارا، استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ الصحفي، ليكونوا منارات يُقتدى بها.
هي صحافة أرعبت الأنظمة الدكتاتورية، ورغم سريتها ومنع صدورها، إلا أنها كانت تُقرأ على نطاق واسع من قبل أبناء الشعب: من المثقفين والعمال والفلاحين والسياسيين والاقتصاديين. كانت صحيفة شاملة، تخاطب كل فئات المجتمع، حتى الأطفال كان لهم نصيب من التوعية عبر صفحات مخصصة لهم.
وأنا أتابع تاريخ الصحافة الشيوعية، منذ صدور صحيفة كفاح الشعب عام 1935، مرورا بـ القاعدة، وصوت الشعب، واتحاد الشعب، وطريق الشعب، أراها ملحمة نضالية حقيقية، دافعت عن مصالح الشعب، وخاصة الطبقة العاملة والكادحين والفقراء والعاطلين عن العمل. لقد كانت سلاحا فعالا لاستنهاض الوعي، وتحفيز الجماهير على الاحتجاجات والإضرابات والتظاهرات من أجل نيل حقوقهم المشروعة.
في السبعينيات، وقبل قيام الجبهة الوطنية وظهور طريق الشعب إلى العلن، كانت الصحيفة تُطبع على ورق الرايسنغ، وتُصفط وتُخفى داخل علب السكائر. كنت أرى أخي يقوم بذلك، لينقلها إلى رفاقه لقراءتها في الاجتماعات السرية، التي غالبا ما كانت تُعقد في المنازل. كنت حينها أتمنى أن أكون أنا من يحملها، لنيل هذا الشرف العظيم.
وبعد قيام الجبهة وصدور الصحيفة علنا، ابتسمت لي الحياة، وصرت أقتنيها بنفسي من إحدى المكتبات القريبة من منزلنا، ولا يزال اسمها محفورا في ذاكرتي: مكتبة أبو سمير قرب نفق الشرطة في جانب الكرخ من بغداد. كبرت الأحلام في داخلي، وكنت أتصفح الصحيفة بشغف، أقرأ عناوينها الحمراء حتى أصل إلى صفحة "مرحبا يا أطفال"، التي كانت تشعل في داخلي الحلم بأن أكون صحفيا، وأن أرى اسمي مطبوعا على صفحاتها.
ومن خلال قراءتها، ازداد شغفي بالكتب والروايات. كنت ألتهم كل ما يقع عليه نظري من كتب في مكتبة منزلنا المتواضعة، ومن أدبيات الحزب ومجلاته، التي للأسف، دُفن قسم منها وأُحرق القسم الآخر في تنور مشتعل عند الغروب، بعيدا عن أعين أجهزة الأمن القمعية، بعد انهيار الجبهة الوطنية.
لكن الحلم الكبير تحقق بعد التغيير في عام 2003، عندما أصبحت طريق الشعب أول صحيفة وطنية تصدر للحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط النظام الدكتاتوري، لتواصل رسالتها في الصدور والتوزيع. عندها، وجه الحزب تعميما إلى تنظيماته بترشيح رفاق أكفاء لدورة صحفية يحاضر فيها صحفيون وإعلاميون وقادة سياسيون كبار. تم ترشيحي من قبل المحلية العمالية للمشاركة في هذه الدورة، وتلتها دورات أخرى. وهكذا تحقق الحلم وأصبحت صحفيا خريجا لأكبر مدرسة صحفية طريق الشعب. وصار اسمي يُكتب على صفحاتها، وفي صحف أخرى أيضا.
كل التحية لهذه المدرسة الصحفية العريقة، في عيدها التسعين، والتي بقيت وفية لرسالتها في الدفاع عن قضايا الشعب والوطن ومن أجل حياة حرة كريمة وعدالة اجتماعية.