تُعد المحاصيل الاستراتيجية مثل الحنطة والشعير والذرة والرز من أهم المحاصيل المرتبطة بحياة الإنسان اليومية، إذ يعتمد عليها في غذائه الأساسي، وعلى رأسها صناعة الخبز الذي يشكل الغذاء الرئيس للبشرية. وعلى امتداد التاريخ، كانت الأزمات الغذائية محطات لانفجار التناقضات الاجتماعية، إذ شهدنا مجاعات كبيرة في أوروبا مع نهاية الحقبة الإقطاعية، كما كانت الأزمة الغذائية أحد دوافع الثورة الفرنسية، ورفَع زعيم ثورة أكتوبر في روسيا، لينين، شعار "الخبز". كذلك اندلعت حروب وصراعات على الغذاء في وادي الرافدين ووادي النيل، بينما شهد عصر الصناعة صراعاً على السيطرة على تجارة الحبوب.
وانطلاقاً من هذه المقدمة التاريخية، نصل إلى واقع الزراعة في العراق، حيث يعاني البلد منذ سنوات من شحّة متزايدة في المياه وصلت اليوم إلى مستويات مأساوية لا يمكن تجاهلها. فقد أقدمت وزارتا الزراعة والموارد المائية على تصفير الخطة الزراعية للموسم الصيفي 2025، ومنعتا الزراعة في مناطق الفرات الأوسط والجنوب، باستثناء مساحة محدودة تبلغ (1000) دونم لزراعة الرز بهدف حماية صنف "العنبر". كما صدرت تصريحات رسمية عن منع الزراعة في الموسم الشتوي 2025 – 2026، ما يعني عملياً توقف إنتاج المحاصيل الاستراتيجية.
وبهذا القرار، لن يتبقى للعراق سوى مساحات البوادي والصحارى، وهي مناطق مخصصة تاريخياً كمراعٍ للأغنام. وفي ظل التوسع في استغلال المياه الجوفية، التي بدأت تتعرض للتملّح، باتت هذه الموارد غير صالحة حتى للري. وهنا يبرز التساؤل الملح: حتى وإن استُخدمت تقنيات الري الحديثة، فهل يمكن في ظل هذا العجز الكبير في مياه النهرين والمياه الجوفية تجاوز الأزمة ومخاطرها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية؟ الجواب الواضح: لا.
إن مواجهة هذا التحدي لا يمكن أن تتم إلا عبر إجراءات استراتيجية عاجلة وفعّالة على أعلى المستويات، بدءاً من رئاسة الحكومة مروراً بالوزارات المعنية (الزراعة، الموارد المائية، الخارجية، البيئة)، وبدعم إرادة سياسية صلبة. ومن أبرز هذه الإجراءات:
- تشكيل لجنة عليا لإدارة ملف المياه داخلياً وخارجياً، تتولى التفاوض مع تركيا وإيران بشأن حصص العراق المائية من نهري دجلة والفرات، وتستخدم جميع الوسائل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية للضغط.
- عقد مؤتمر وطني للمياه بمشاركة المختصين من وزارات الموارد المائية والزراعة والبيئة والتخطيط، وممثلين عن الفلاحين والمزارعين والنقابات المهنية (المهندسون الزراعيون، المهندسون، الجيولوجيون)، لبحث آليات عملية للخروج من الأزمة وتأمين الأمن الغذائي.
- تفعيل جمعيات مستخدمي المياه لضمان إدارة رشيدة وعادلة للموارد.
- منع التجاوزات على المياه من قبل الأفراد أو الجماعات المتنفذة، واتخاذ إجراءات صارمة بحق المخالفين.
- إعادة تدوير مياه الصرف الصحي عبر إنشاء مشاريع متخصصة في المحافظات كافة، لتوفير مليارات الأمتار المكعبة من المياه الصالحة للاستخدام الزراعي.
- تحلية مياه البزول للاستفادة منها في الري، على غرار ما هو معمول به في دلتا مصر، وجنوب إيران، والعديد من مناطق الصين.
- إلزام الشركات النفطية بعدم استخدام المياه العذبة، وفرض تحلية المياه المالحة على نفقتها الخاصة.
- توسيع استخدام تقنيات الري الحديثة، مع تسهيل اقتنائها للفلاحين وتوفير قروض ميسرة لدعمهم.
إن غياب الإرادة السياسية الحازمة في مواجهة أزمة المياه والزراعة سيقود العراق حتماً إلى أزمة غذائية واجتماعية وأمنية كبرى، قد تنذر بانفجار اجتماعي واسع. لذا، فإن التحرك الجاد اليوم ليس خياراً بل ضرورة وجودية لحماية حاضر العراق ومستقبله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* مهندس زراعي استشاري