أيام قليلة ويبدأ الموسم الزراعي الجديد، فيما يعيش الفلاحون والمزارعون حالة من الحيرة لأسباب عديدة، أهمها عدم توفر المياه وشحتها، بل وصلت إلى حد الفقر والندرة في نهري دجلة والفرات، وحتى في السدود والخزانات، حيث تراجع الخزين المائي إلى خمسة مليارات متر مكعب لا تكفي حتى لمياه الشرب.
إضافة إلى ذلك، فإن مياه النهرين الشحيحة أصبحت ملوثة بسبب اختلاطها بمياه الصرف الصحي، وما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على البيئة والصحة العامة والزراعة. وهذا – وإن لم يكن موضوعنا الرئيس – فإنه يرتبط بشكل مباشر بالعملية الزراعية.
من جانب آخر، فإن أكثر من نصف الفلاحين والمزارعين لم يتسلموا أثمان محاصيلهم التي سوقوها إلى مخازن وسايلوات وزارة التجارة. وحتى من تسلم "صكوكًا" لم يجد لها رصيدًا في المصارف. وهكذا يعيش الفلاح اليوم ضنك العيش نتيجة غياب السيولة المالية، فكيف يمكنه أن يزرع وهو لا يملك ثمن البذور ولا تكاليف الحراثة ولا المبيدات ولا النقل، بل ولا يقدر حتى على تسديد ديونه المترتبة من العام الماضي، فضلًا عن تلبية متطلبات حياته اليومية؟
كل هذه المعاناة تواجه الفلاحين في ظل صمت مطبق من الحكومة المركزية والحكومات المحلية ووزارات الزراعة والموارد المائية والتجارة والبيئة، من دون طرح حلول مقترحة أو إجراءات عملية تكفل استمرار حياة المواطنين في الريف، وحماية الإنسان والأرض من التصحر وفقدان صلاحيتها للزراعة مستقبلًا. وحتى الأراضي الصحراوية المعتمدة على المياه الجوفية ليست بمنأى عن الأزمة.
وإن أراد الفلاح أو المزارع الاتجاه نحو الزراعة البديلة، فإنها – مثل زراعة الأعلاف – لا تحقق ربحًا يتيح لهم الاستمرار بحياة طبيعية، وذلك بسبب غياب جدية الجهات المعنية في توفير شروط ومستلزمات العمل. فلا توجد بنى تحتية كالطرق، ولا بذور بمواصفات تتحمل الجفاف والملوحة، وإن وُجدت فهي مرتفعة الثمن.
إذن، ما العمل في ظل هذه الظروف القاسية التي لم يشهدها الفلاح والمزارع العراقي منذ أكثر من مئة عام؟ هل يترك أرضه وينزح إلى المدينة، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر؟ الواقع أن آلاف العوائل الفلاحية هجرت بالفعل أراضيها ونزحت إلى المدن لتعيش في العشوائيات.
اليوم لم يتبقَّ سوى أيام قليلة، فقد تجاوزنا منتصف الشهر التاسع من العام والموسم الزراعي قد بدأ، فيما لم تعلن وزارتا الزراعة والموارد المائية عن خطتهما الزراعية. وهنا لا بد من القول: إن الأمر يتطلب إرادة سياسية صلبة للضغط على الجارتين تركيا وإيران سياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا وعلى الصعيد الدولي، من أجل انتزاع حصة العراق المائية في النهرين، وعدم التهاون أو التراخي في موضوع الحقوق المائية. كما يستدعي وضع خطط شاملة للسنوات المقبلة، تتضمن إعادة تدوير مياه الصرف الصحي، وتحلية مياه البزول والبحر، وتوفير المستلزمات الزراعية للفلاحين بسهولة، مع تسديد مستحقاتهم وديونهم على الدولة بالسرعة الممكنة.
ــــــــــــــــــــــــ
* مهندس زراعي استشاري