اخر الاخبار

ثمة جاذبية لا تقاوم في ما يخلفه الراحلون، إذا كانوا مبدعين، أو فنانين، أو مفكرين، من مخطوطات لم ينشروها في حياتهم، إما لأنهم لم يستكملوها، وبقيت مشاريع مؤجلة لهم، منّوا النفس بأن ينجزوها في أوقات لاحقة، فعاجلهم الموت قبل أن يفعلوا ذلك، وإما لأنهم، لاعتبارات معينة قد تتصل بالظروف السياسية والاجتماعية في بلدانهم، ارتأوا ألا تنشر إلا بعد رحيلهم، أو لا تنشر على الإطلاق، وما أكثر الأعمال التي نشرت لأدباء ومفكرين بعد أن رحلوا، ربما لأنهم أوصوا بذلك بالفعل، وربما لأن ورثتهم أو المهتمين بإرثهم الأدبي أو الفكري، ارتأوا أن ينشروها اعتقاداً منهم بأنها جديرة بذلك، مستندين في ذلك، في الأغلب الأعم، إلى ما كان لأصحاب هذه المخطوطات من مكانة وصيت.

هذه الجاذبية، أو فلنقل الفضول، لمعرفة ما خلّفه الراحلون من كتابات تزداد في حال جرى الحديث عن رسائلهم إلى أصدقائهم، أو أقاربهم، أو نظرائهم في الثقافة والفكر، ليس لأن محتوى الرسائل أهم من محتوى المؤلفات، وإنما لأن الرسائل تحتوي على درجة من البوح، قد تكون عالية، لا يقدم عليها الكاتب في مؤلفاته التي نشرها، أو أعدّها للنشر، ففي الرسائل، خاصة إذا كانت موجهة لصديق قريب، يتخفف الكاتب من كل القيود، ولا يحاسب للتبعات، لكون هذه الرسائل خاصة جداً، ولم تكتب، في الأصل، كي تنشر.

 أكتب هذا التقديم كي أشير، ولو على عجالة، لعالم رسائل كتبها العراقي، المفكر والمؤرخ واللغوي والباحث في التراث هادي العلوي (1932 - 1998)، الذي تخرج في كلية الاقتصاد بجامعة بغداد سنة 1956، وعاش الجزء الأطول من حياته بين سوريا والصين، ومكنته إقامته الطويلة في الأخيرة من إثراء مكتبتنا العربية بمؤلفات عرّفنا فيها بثقافة الصين وحضارتها.

 وفي عدد خصصته مجلة «الثقافة الجديدة» للعلوي بعد رحيله، نشر صديقه غانم حمدون عشرين رسالة بعثها العلوي إليه، بعضها من الصين، وقد لا يبدو محتوى بعض الرسائل مهماً للقارئ العادي، ولكنها بالتأكيد مفيدة في التعرف إلى شخصية الرجل، خاصة لجهة صراحته وصرامته، وزهده في أسلوب العيش، وانصرافه إلى البحث والتأليف، فضلاً عما يبديه من آراء تجاه أحداث ووقائع وأشخاص وكتابات بصراحة نادرة، لا تخلو من الحدّة، ولكنها الحدّة النابعة من اتساق العلوي مع نفسه، وما يؤمن به من أفكار.

 في الرسائل لا يتحدث العلوي كثيراً عن نفسه، إذا ما استثنينا إشاراته إلى وضعه الصحي، في ردّه على استفسار صديقه، ويرينا هذا مقدار ما كابده من متاعب ومعاناة قبل أن يرحل عن دنيانا، من دون أن يحول ذلك بينه وما خلّفه لنا من لآلئ الفكر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الخليج” – 11 نيسان 2022

عرض مقالات: