اخر الاخبار

في منتصف نيسان الماضي ٢٠٢٣ غادرت المناضلة الشيوعية العراقية الباسلة (فكتوريا جاكوب) الحياة في العاصمة الدانماركية كوبنهاغن عن عمر ناهز الثالثة والتسعين.

ولدت الفقيدة فكتوريا في بغداد يوم ٢٥/ ١٢/ ١٩٢٩، وهي الابنة البكر لعائلة عمالية متنورة، إذ كان والدها يعمل في مؤسسة السكك الحديدية العراقية عندما كانت تدار من قبل البريطانيين في العهد الملكي. وبحكم عمل الوالد فقد تنقلت معه العائلة المتكونة من أم وأب وولدين وأربع بنات في عدة مدن عراقية مثل بعقوبة وجلولاء وأربيل مما أتاح لهم التعرف على بيئات مختلفة وأن يعيشوا وسط بيئات شعبية وعمالية، ولذلك وجد جميع هؤلاء الأبناء فيما بعد طريقهم للحزب الشيوعي العراقي.

في أواخر أربعينات القرن الماضي انضمت فكتوريا وأخوها أدمون جاكوب، والذي كانت تكبره بسنة واحدة إلى الحزب عن طريق قريب وصديق للعائلة هو الضابط الشيوعي (بدري ستراك) الذي كان ضمن تنظيم الضباط الأحرار.

وكان لوثبة كانون عام ١٩٤٨ ضد معاهدة بورتسموث واشتراك النساء العراقيات فيها أثر واضح في توسيع شعبية الحزب الشيوعي حتى أن بعض العوائل صارت شيوعية بكاملها، كعائلة زكية خليفة وعائلة فكتوريا جاكوب وغيرهما. وعندما أنهت فكتوريا دراستها الابتدائية في بغداد انتقل عمل والدها من بغداد إلى جلولاء وكان ذلك عام ١٩٤٢ أو ١٩٤٣، ولم تكن في جلولاء حينها متوسطة للبنات! فاضطرت فكتوريا للعمل في الخياطة والحياكة، وأصبحت ماهرة حتى صارت الخياطة والتفصيل مهنتها طوال سنين عديدة، اشتغلت خلالها في معامل الخياطة الأهلية، وكانت أحياناً تعمل ١٦ ساعة في اليوم بدلاً من ٨ ساعات من أجل مساعدة العائلة مادياً! وفي هذه الأثناء توزع نشاطها بين العمل المهني والنقابي، أو التفرغ والاحتراف للعمل الحزبي ولتوفير البيوت الحزبية السرية أيام العهد الملكي، وقد اختارت المهمة الحزبية واستمرت بها حتى انقلاب ١٧ تموز عام ١٩٦٨.

في عام ١٩٤٤ ولدت شقيقة فكتوريا (ريتا) وقد انتمت ريتا للحزب في شبابها المبكر وتعرضت للكثير من حالات الاعتقال والتعذيب خصوصاً عام ١٩٦٣ في قصر النهاية، وفي السبعينات عملت ريتا في دار الرواد، ونالت نصيبها من الاعتقال والتعذيب بعد انهيار الجبهة مع البعث عام ١٩٧٩! وكانت شقيقتا فكتوريا (ماري ومادلين) قد اعتقلتا عام ١٩٦٣ وكذلك شقيقها أدمون، الذي استشهد تحت التعذيب تاركا اربعة أبناء دون سن السادسة من العمر! وقد تكفلت فكتوريا ووالدتها بتربيتهم لأن أمهم كانت معتقلة أيضاً! كما أعتقل أخ فكتوريا الآخر جورج في قصر النهاية.

وكانت فكتوريا نفسها قد أفلتت من الاعتقال بمساعدة أحد أقارب العائلة وهو فاروق بشير.

وفي مقابلة معها قالت فكتوريا أنها تعرفت على الحزب في وقت مبكر، إذ أعجبت بشخصية سعدية زوجة الرفيق مسعود القريني.  وفي إحدى زيارات سعدية لهم في اربيل التي عاشوا فيها أكثر من اربع سنوات اقترحت عليها سعدية أن تأخذها لبيت حزبي في بغداد، وكانت على صلة بالرفيقة سكينة سليمان شقيقة الرفيق موسى سليمان، الذي استشهد في مجزرة الكوت عام ١٩٥. والتحقت فكتوريا بأخيها أدمون عندما أراد إكمال دراسته الجامعية في بغداد، حيث استأجرا غرفة مع عائلة الرفيق كريم جزراوي، وفي بداية عام ١٩٥٤ تعرفت فكتوريا على الرفيقة خانم زهدي وانشغلتا معاً في العمل الحزبي. وفي هذه الفترة بدأت فكتوريا بتكوين البيوت الحزبية السرية لكوادر الحزب في الكاظمية، حيث ضم أحد هذه البيوت أدمون شقيق فكتوريا وخاتم زهدي وبصرية مريوش ورفيقين أخرين، وبيت آخر في الصليخ ضم الرفيق حمدي أيوب والرفيقة زكية بابان . 

وعندما عادت عائلة فكتوريا إلى بغداد أخذت بيتاً في الصليخ أيضاً، واستفاد الحزب منه حيث عاشت معهم فيه الرفيقة ثمينة ناجي يوسف زوجة الشهيد سلام عادل. وفي فترة لاحقة أخذوا بيتا آخر عاش معهم فيه حميد عثمان! ومرّ على هذه البيوت الكثير من الشخصيات القيادية الأخرى والكوادر لفترات تطول أو تقصر حسب الظروف، وكان من بينهم الرفاق حامد مقصود وعطشان الأزيرجاوي وأبو فاروق (عمر علي الشيخ) وأبو زكي (حميد بخش).

وفي فترة التحضير للعمل الحاسم تم استئجار بيت في الجادرية من طابقين، وكان الطابق الاول يستخدم لأغراض تتعلق بالذخيرة والسلاح.

وكانت مهمة فكتوريا الرئيسية هي إيجاد البيوت الأمنة وتوزيع البريد السري للحزب، ومن خلال هذا العمل تعرفت على الرفاق سلام عادل وابو العيس والعبلي وثابت حبيب العاني.

وكانت فكتوريا من رفيقات الرعيل الأول اللواتي ساهمن في العمل النسوي، وفي تأسيس المنظمة الجماهيرية “رابطة المرأة العراقية” والمشاركة في مؤتمراتها ومعها الرفيقات نزيهة الدليمي وسافرة جميل حافظ وخانم زهدي وبشرى برتو ومبجل بابان وناهدة السامر وخديجة شوكت سري.

كما شاركت فكتوريا في مؤتمر اتحاد النساء العالمي الذي عقد في بودابست عاصمة المجر عام ١٩٥٧، وكانت معها الرفيقة قادرية من البصرة، والتحقت بهن الرفيقة خانم زهدي من المانيا، حيث كانت ممثلة العراق في اتحاد النساء الديمقراطي العالمي. وبعد انتهاء هذا المؤتمر قمن بزيارة بلغاريا وجيكوسلوفاكيا بدعوة من المنظمات النسائية في البلدين.

وبعد ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ انخرطت ألوف النساء العراقيات في صفوف الرابطة التي كان لها دورها في مشروع محو الأمية وفي قيادة جمعيات نسائية أهلية في بغداد، والتي كانت تضم مدرسة للصم والبكم ومعملاً للخياطة، وتم انتخاب فكتوريا في الهيئة الإدارية لهذه الجمعية مع ناجحة الظاهر وملكي تلو وخديجة شوكت سري وناهدة فيصل السامر.

في كتابه “الحقيقة كما عشتها” يتحدث الرفيق جاسم الحلوائي عن فكتوريا وأخواتها المناضلات، وعن أخيها الشهيد أدمون جاكوب الذي يصفه بـ “الكادر العمالي” وعن أخيها جورج وأمها وما قدمته هذه العائلة الشيوعية من خدمات جليلة للحزب، من أجل حرية العراق وسعادة شعبه.

وقد ظلت الرفيقة الفقيدة فكتوريا أو (باسمة) كما كانت تعرف ايام العمل السري، ظلت رغم تقدم عمرها ومتاعبها الجسدية مشغولة دائما بمتاعب الوطن ومشدودة الى نشاطات الحزب المتنوعة والى أهدافه التي نذرت نفسها لتحقيقها.

عرض مقالات: