في دولة تشيكوسلوفاكيا بداية صيف عام 1981، توجهت من مدينة زهرادكي التي أتممت فيها عاما في تعلم اللغة، صوب مدينة براغ التشيكية، لمواصلة الدراسة في كلية الاقتصاد هناك.

في تلك الأيام كانت مدينة براغ مركزا لتجمع عدد كبير من الشيوعيين والوطنيين، وبالخصوص من المثقفين المهتمين بشؤون الثقافة والفكر والسياسة.

وبحكم اهتماماتي الثقافية والأديبة، وجدت في أجواء المدينة وطقوسها الغنية بالمعرف والذائقة الفنية والأدبية، متسعا لاستكشاف عوالم جديدة والاستفادة من وفرة الخبرات والتجارب وعبر التعرف على العديد من الرموز الثقافية والسياسية من العراقيين ومن مثقفي الدول العربية، وغيرهم.

في منطقة ضواحي براغ الجميلة تقع كليتنا كلية العلوم الاقتصادية، وليس بعيدا من هناك تقع بنايات أقسام سكننا الداخلية التي لا تبعد سوى محطات قليلة كنا نستمتع في الوصول إليها بقطارات الترام (الترامفوي). في مدينة براغ كما في غيرها من المدن والدول خارج الوطن، نشط الشيوعيون وأصدقاؤهم في العمل والنشاط للتضامن مع الشعب العراقي الذي كان يتعرض لأبشع نظام ديكتاتوري فاشي انتهك الحريات وصادرها. سوية مع رفاقي الشيوعيين، وزملائي في جمعية الطلبة العراقيين، نشطت وساهمت في الكثير من الفعاليات والنشاطات، ومنها في مجال الشعر والصحابة والأدب عموما.

أتذكر مرة حين تكلفت بمهمة محددة أصر فيها رفاقي أن أتكتم عليها مع صيانة تفاصيلها.

لم أعرف الكثير عن ماهية المهمة والأمر الذي ينتظرني، سوى التلميح عن أن الأمر يخص اهتماماتي بشؤون الثقافة والسياسة والحزب.

وتذكرت أيام العمل الطلابي والحزبي الشيوعي في العراق، حين تسلمت من جماعتي ورقة كتب فيها عنوان لسكن معين في مدينة براغ، كان علي الذهاب إليه، حيث ينتظرني هناك أحد الرفاق اسمه (جيان).

ذهبت في اليوم التالي للمكان المقصود دون متاعب، حيث استقبلني الرفيق جيان بالترحاب والبساطة وحسب الاتفاق الذي رتبه الرفاق...

 كانت المرة الأولى التي ألتقي بها بالأستاذ جيان، رغم اقامتي في تشيكوسلوفاكيا لفترة عامين في حينها. كثيف الشعر وقد ترك ذقنه ينمو دون حلاقة، مع عدم التكلف في الملبس الذي طغت عليه العتمة والألوان الداكنة. أكثر ما أثار انتباهي صفوف الكتب والمجلات التي ملأت الغرفة في كل جوانبها ولم تترك مكانا لوضع أقداح الشاي.

عرفت من الأستاذ (جيان) بأني ورفيق آخر سنعمل معه سوية في أعداد وتحرير وترتيب مطبوع شيوعي داخلي خاص بالشيوعيين العراقيين في تشيكوسلوفاكيا وكنت قد اطلعت عليه دون أن أعرف أن محرره هو الرفيق يحيى بابان أو كما شاع اسمه (جيان).

 لم يدم اللقاء طويلا الذي تخلله تأكيد الرفيق جيان على ضرورة كتمان تفاصيل عملنا، مع حرصه على تقديم المساعدة والنصيحة والمشاركة في كيفية أداء عملنا الصحفي في ذلك المطبوع الصغير...بعد ذلك اللقاء التقينا لمرتين أو ثلاث، لا أذكر. ويبدو أن المشروع قد توقف لأسباب معينة.

في الفترة اللاحقة لم التق بالرفيق جيان سوى لمرات قليلة، وكان يحرص على الابتعاد عن المناسبات والمهرجانات والفعاليات التي يؤمها جمهور كبير...

 في ٢٩ آب ١٩٨٢ غادرت براغ متجها صوب السهول والوديان في كوردستان العراق، وصرت نصيرا في صفوف حركة الأنصار الشيوعيين، وكنت أسمع أحيانا بأخبار وكتابات الصحفي والأديب يحيى بابان (جيان)

الحزب الشيوعي العراقي كان قد كرم لأكثر من مرة الصحفي والأديب (جيان) مشيدا بمنجزه الصحفي والأدبي، ومنها رسالة تهنئة له بمناسبة بلوغه التسعين...

يحيى بابان (جيان) من مواليد مدينة بغداد 1930 وعاش ظروفا قاسية في وطنه العراق بسبب تبنيه لفكر الشيوعيين، واضطر لاحقا للهجرة والعيش في مدينة براغ في تشيكوسلوفاكيا.

عرف الكاتب يحيى بابان، أو جيان كما كان يسمي نفسه، بكتابة العمود الصحفي والقصص والمقالات، مع اهتمامات ملحوظة بالكتابات المسرحية.

 طبعت له دار المدى في بغداد مؤلفه (المرفأ وبغداد). كما أصدرت له دار الفارابي رواية (دلمون) التي يؤرخ فيها لشخصية المهاجر والمنفي المضطهد...

رحل يوم السبت 2023.2.11 في مدينة براغ عن عمر 93 عاما...

الذكر الطيب دوما للراحل الفقيد يحيى بابان (جيان) الذي ستخلده كتاباته وإرثه المعرفي الثقافي والنضالي الغني المتميز.

عرض مقالات: