اخر الاخبار

“ليس الجهل، لكن الجهل بالجهل هو موت المعرفة” - ألفريد نورث وايتهيد.

هذا النوع من الأمية .. يهددنا جميعا. إنها ليست الأمية التقليدية بمفهومها المتعارف عليه حيث لا يستطيع الشخص القراءة والكتابة. اننا نعيش اليوم تحت تأثير خطير من هذا الشكل الجديد للأمية. وفقا للمفهوم المتعارف “يُعامل الشخص البالغ من العمر سبعة أعوام فما فوق، والقادر على القراءة والكتابة بفهم بأية لغة، على أنه متعلم”، الا اننا نشهد الآن شكلاً من أشكال الأمية يتسلل إلى أولئك المتعلمين.

اليوم، تحت تأثير العولمة “العالم قرية صغيرة” والتقنيات الرقمية والثقافة البصرية السائدة، يبدو اننا نقرأ (ونرى) بفهم أقل؟ هذا الشكل الجديد من الأمية له علاقة بنواقص معينة في الفهم. القراءة أكثر من مجرد رؤية الكلمات او حفظها. انها امر يتعلق بفهم الكلمات، باكتشاف وبناء المعنى، مثلما انه لا يتم جمع معنى الكلمات التي نقرأها من القواميس وحدها. مثلما نحتاج الى الفهم لإدارة مهام الحياة اليومية التي تتطلب مهارات قراءة تتجاوز المستوى الأساسي، بحيث تمكننا من المشاركة في جميع الأنشطة التي تتطلب معرفة القراءة والكتابة من أجل الأداء الفعال للمجتمع، لتمكيننا من الاستمرار في استخدام القراءة والكتابة لأجل تطورنا الشخصي وتطوير مجتمعنا.

ربما تكون الأمية المقنعة أخطر أنواع الأمية وأكثرها تدميرا. الامية الاكاديمية العلمية والامية المنهجية الفكرية والامية التقنية والامية الثقافية، لا يمتلك فهماً وإدراكاً جيداً للمشاكل المرتبطة بهذه الأنواع من الأمية. فإذا لاحظت أفرادا أميين غير متعلمين واميين وظيفيا، فأنت على دراية بالإحباط وخيبة الأمل الناجمة عن افتقارهم إلى معرفة القراءة والكتابة. هؤلاء الأفراد يدركون مشكلتهم وكثيرا ما يعزون فشلهم الى هذه المشكلة، وهذا ما يعرفه المجتمع ويعترف به.

مع ذلك، هناك نوع آخر من الأميين هم الافراد الذين يمكن أن يكونوا خطرين ومدمرين بسبب نوع الأمية لديهم وهي ما اسميتها بـ (الامية المقنعة) وانا احب تسميتها بـ (الامية المختبئة) ومن يتصف بها اسميه (الامي المختبئ).

التسمية ليست بالمهمة وما يهم هو ان الأميين المقنعين يجهلون أميتهم. أميتهم مخفية عنهم أنفسهم. ولأنهم لم يتم التعرف عليهم مطلقا، فهم مخفيون عن الآخرين أيضا. الأميون المقنعون يجهلون جهلهم. لا يعرفون أنهم لا يعرفون. إنهم لا يفهمون تماما المعلومات والأفكار التي يتم تلقيها أو دراستها أو تطبيقها، ولا يدركون أنهم لا يفهمون. تقوم أفعالهم ومشاعرهم ومعتقداتهم على افتراضاتهم وأفكارهم ومفاهيمهم الخاطئة غير المعروفة. ويمكن أن تتراوح مشاكل ونتائج كونك أميا خفيا بين الهزل والكارثة.

من هو الأمي المقنع؟ هناك مثالان مختلفان للأمي المقنع، الأول هو الفرد الذي يعاني من اضطراب في منهجية التفكير من ناحية، ومن قصور في الفكر الجدلي من ناحية ثانية، مما يجعله غير قادر على الفهم بنوع من العجز يدفعه أحيانا الى اطلاق الاحكام المسبقة والآراء المتسرعة والادعاء بالقدرة على حل المشاكل دون ان يجشم نفسه عناء الجهد الفكري لتحليل الواقع وفهمه. والمثال الثاني يكمن في الجهل الوظيفي، وهو حال موظف المكتب الذي لا يعرف الأنظمة واللوائح التي تحدد وظيفته ولا يعرف واجباته، او الطبيب الذي يصف لك عدداً من الوصفات لا علاقة لاي منها بمرضك، او الميكانيكي الذي “أصلح” سيارتك ثلاث مرات للمشكلة نفسها..

تظهر المشاكل التي تسببها الأمية المقنعة في القوانين التي لم تدرس مضامينها، او المنتجات التي لم تكتمل صناعتها، او الوظائف سيئة الأداء، او “الثقافة” الضارة. نحن في حاجة إلى مواجهة الحقيقة الصارخة المتمثلة في أن المشكلات التي غالبا ما توصف بأنها مشكلات “الإنتاج” أو “الجودة” أو حتى مشكلات “القهر والتسلط” قد تكون في الواقع مشكلات تعليمية.

علامة التعليم الحقيقي هي القدرة على تكوين افراد متعلمين ومثقفين، وإنتاج منتجات عالية الجودة بكميات كبيرة. الأمية المُقنّعة تمنع الإنتاج الجيد مهما كان مجال العمل، وهي نتيجة لفقدان التعليم الحقيقي الذي يمكن ان يؤدي الى حظر تدفق الأفكار في أي مجال تعليمي، بطريقة تؤدي بدورها إلى قمع المزيد من الفهم والى تكوين افراد يمكن وصفهم بأنهم اميون مقنعون.

لربما يصعب تصور وجود أساليب فاعلة لمكافحة هذه الظاهرة، في ظل الانتشار السريع لوسائل الاتصال والحسابات الشخصية وصفحات التواصل التي حولت المثقف والمتعلم الى ممارسين لهواياتهم عبر الرسائل الفيسبوكية والتغريد، وانغمارهم في حوارات وهمية وقضايا عامة. فضلاً عن انتشار الفساد الإداري والمالي الذي يؤدي الى استغلال الموظف لموقعه وصلاحياته للحصول على مكاسب ومنافع غير مشروعة، من دون الحاجة الى بذل جهود إضافية للتعلم واكتساب المعرفة والخبرة.

مع ذلك، هناك أسلوب طويل المدى لايقاف انتشار الظاهرة يكمن في التعليم المستمر مدى الحياة، وهو يهدف الى الحصول على خبرات تعليمية من دون ربطها بعمر محدد او فترة زمنية معينة او مرحلة دراسية، وهو يزيد من الثقة الشخصية لدى الفرد ويشجع على تعزيز دور المشاركة الاجتماعية عنده. الى جانب بناء الشخصية المتكاملة، وتفعيل الفعل الثقافي الجاد والمستنير، وتشجيع التفكير النقدي في المدارس والجامعات والذي يساعد في تعزيز قدرة الدماغ على التحليل المنطقي، عن طريق دعم مهارات الافراد الشخصية المرتبطة بالفهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * من حوار شامل حول التعليم نشر في مجلة “الثقافة الجديدة” العدد 419-420 آذار 2021.

عرض مقالات: